حاولت إعادة تتبع خطواتي بعد أكثر من ربع قرن وأنا أتجول في شارع ابن خلدون وسط تونس، أراقب التفاصيل كما فعلت ذات مرة. بائع الفاكهة الذي كان يستقبلني في التسعينات بابتسامة يقف الآن بوجه صارم، وكأن الزمن نفسه قد سلبه ضحكته. سائقو سيارات الأجرة وموظفو البنوك والنادل في مقهى باريس، كلهم يحملون ثقل الحاضر، في حين يبدو أن المدينة نفسها تتساءل عما حدث لمقهى مشموم الفل.
الذاكرة الجماعية لا تقل حيوية عن الذاكرة الشخصية. لا تزال جادة الحبيب بورقيبة تحمل أصداء ضحكات الصباح الباكر، وصرخات الباعة تضبط إيقاع المدينة، وتحتفظ المقاهي برائحة القهوة وبقايا المناقشات الطويلة. ما عايشته كصحفية يتقاطع مع ما احتفظت به المدينة نفسها، حيث تدمج الذاكرة الشخصية مع الذاكرة الجماعية في لحظة واحدة باقية.
اليوم، لم تعد تونس مجرد صدى للتسعينيات؛ لقد أصبح مختبراً حياً تلتقي فيه السياسة والثقافة، حيث يختبر المجتمع تجاربه في الإعلام والحرية والفن والاقتصاد. أصوات شابة تناقش الهجرة والهوية والمستقبل، بينما لا تزال الجدران تهمس بأسماء الشعراء والمفكرين الذين تبادلت معهم المحادثات منذ عقود.
وهنا تتشابك الذكريات الفردية والجماعية. إن وجودي في مقاهي المدينة، جنبًا إلى جنب مع ما تحتفظ به المدينة، يخلق إحساسًا متعدد الطبقات بالوقت. سائق التاكسي، النادل الحذر، الموسيقي الذي يحيي الأغاني القديمة بنبض حديث؛ كلهم شهود على التجربة الثقافية والسياسية المستمرة في تونس، والتي تشكل الذاكرة الجماعية أثناء ظهورها.
تواجه تونس اليوم تجارب الإعلام الحر واقتصادًا هشًا وتشرذمًا اجتماعيًا وأزمة هوية ثقافية. فكيف يمكن الحفاظ على أصالته مع التكيف مع العولمة والتكنولوجيا؟ في هذا الصراع، يصبح دور الذاكرة الشخصية واضحًا: الصحفي الذي شهد نقاط التحول، والمواطن الذي يؤرخ لقصصه اليومية الصغيرة، والفنان الذي يواصل الإبداع، يجتمعون جميعًا في تجربة المدينة اليومية.
يصبح كل يوم بمثابة مسرح تلتقي فيه التجارب الخاصة والعامة: يعيد الفنان تفسير الأغاني القديمة لعصر جديد، والصحفي يكتب عن السلطة والمجتمع، والمواطن يروي روتينه من طاولة مقهى أو زاوية شارع. هذه الذكريات حية وديناميكية ومتوترة أحيانًا، ولكنها حاضرة دائمًا.
يكشف الفن بوضوح عن هذه التجربة اليومية. يعكس المسرح والسينما والموسيقى صراع المدينة مع نفسها ومع العالم الخارجي. كل لحن أو لوحة أو كلمة مكتوبة تشهد على العلاقة المعقدة بين تونس كمكان وكمختبر ثقافي، بين مدينة تتذكر وشعب يعيد اختراع ذاكرته باستمرار.
لم تتوقف تونس قط عن تدريس التاريخ؛ فهو يعيد كتابته كل يوم. وهنا تتقاطع السياسة مع الثقافة، وتلتقي الذاكرة الفردية بالذاكرة الجماعية، وتتكشف حياة المدينة بين ما فقدته وما لا تزال تحتفظ به. في كل شارع، في كل مقهى، في كل وقفة بين الضجيج والصمت، تكمن تجربة حية، درس في الحرية والتغيير والصمود.
بالنسبة لي، تونس أكثر من مجرد مدينة؛ إنه مختبر للذاكرة والحرية والفكر. في مقهى قديم على ضفاف بحيرة تونس، وبينما تنطلق أغنية حزينة لهادي الجويني في الهواء، أشعر بالمدينة تتنفس من جديد، ويصل صدى الماضي إلى الحاضر. ويستمر الحوار اليومي بين المدينة وأهلها، كلحن قديم يُغنى بصوت جديد، يحمل الحنين والحياة في تناغم تام.