لندن
يبدو أن السلطات العراقية مهمشة مع ظهور قرارين حاسمين اتخذتهما تركيا ومنافسها القديم حزب العمال الكردستاني؟ وكلاهما مرتبط بشكل مباشر بأمن بغداد وسيادتها.
فبعد أيام فقط من قيام البرلمان التركي بتمديد انتشاره العسكري من جانب واحد في شمال العراق، أعلن حزب العمال الكردستاني، الذي شرع في السير على طريق سلمي بعد أربعة عقود من الصراع المسلح مع القوات التركية، يوم الأحد أنه سيسحب جميع مقاتليه من الأراضي التركية إلى شمال العراق، وهي خطوة قدمت كبادرة حسن نية نحو السلام.
ورغم أن عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني تتفق مع مصلحة العراق في تحرير نفسه من عبء الصراع الذي دارت فصوله الأكثر حدة على أرضه، فإن المشكلة تكمن في استبعاد البلاد فعلياً من عملية صنع القرار.
أما العراق، الذي سهّل هذه العملية، فقد تحول إلى مجرد خلفية جغرافية للسلام والحرب، دون أن يكون له دور يذكر في أي منهما، مع اتخاذ قراراته دون اعتبار لمصالحه الخاصة. إن نقل جميع مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى الأراضي العراقية ينطوي على مخاطر واضحة، خاصة إذا تعثرت عملية السلام أو انهارت.
وأثار إعلان حزب العمال الكردستاني الغضب بين العديد من الجهات السياسية العراقية، التي حثت حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على الرد بشكل حاسم.
حذرت لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان العراقي يوم الأحد من المخاطر التي يشكلها نقل مقاتلي حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى العراق ووجهت رسالة عاجلة إلى رئيس الوزراء. وقال عضو اللجنة مختار الموسوي إن هذه الخطوة تهدد الأمن الداخلي للعراق وتخاطر بتوريط البلاد في صراعات إقليمية لها عواقب بعيدة المدى.
وقال لوكالة شفق نيوز، إنه لم يكن ينبغي للمقاتلين أن ينسحبوا إلى العراق، بحجة أنه كان من الممكن أن ينتقلوا إلى سوريا أو إيران أو حتى شمال أفغانستان أو باكستان، لكن تلك الدول رفضت قبول مثل هذه النتيجة. وأضاف أن اللجنة ستستجوب الحكومة رسميًا لتحديد ما إذا كانت لديها علم مسبق بالانسحاب أو وافقت عليه، وما هي الخطوات التي تنوي اتخاذها للتخفيف من المخاطر التي تهدد الأمن القومي.
وبعد مفاوضات مع السلطات التركية بوساطة حزب المساواة والديمقراطية المؤيد للأكراد في أكتوبر 2024، أعلن حزب العمال الكردستاني حله في مايو من هذا العام، بعد دعوة من مؤسسه عبد الله أوجلان، بعد أكثر من أربعين عامًا من الكفاح المسلح ضد القوات التركية الذي أودى بحياة حوالي 50 ألف شخص.
وأعلن التنظيم، الأحد، خلال احتفال أقيم في جبال قنديل، أنه بدأ سحب قواته من تركيا لتجنب الاشتباكات وإزالة الظروف التي قد تؤدي إلى تجدد الأعمال العدائية.
ولا يُنظر إلى عملية السلام باعتبارها اختباراً لصدق تركيا تجاه حزب العمال الكردستاني فحسب، بل أيضاً لنواياها الأوسع فيما يتعلق بوجودها العسكري في العراق وسوريا المجاورتين. ويرى مراقبون أن تدخلات أنقرة تتجاوز المخاوف الأمنية، وتعكس طموحات سياسية وأيديولوجية مرتبطة بتطلعاتها إلى النفوذ الإقليمي. كثيرا ما يصور الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه على أنه وريث الإرث العثماني.
وفي مراسم قنديل، وقف 25 مقاتلاً، بينهم ثلاث شخصيات بارزة عبروا من تركيا إلى شمال العراق، أمام رايتين كبيرتين تحملان صورة أوجلان البالغ من العمر 76 عاماً.
ودعا حزب العمال الكردستاني السلطات التركية إلى اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لتأمين عملية السلام والسماح لمقاتليه بالانتقال إلى الحياة السياسية الديمقراطية. وطالبت المجموعة بإصدار قانون عفو خاص عن أعضائها، وسرعة سن القوانين التي تضمن الحريات والمشاركة الديمقراطية.
وقال صبري أوك، أحد كبار الشخصيات في حزب العمال الكردستاني، إن هناك حاجة إلى خطوات قانونية ذات معنى لضمان توافق العملية مع الحرية، مشددًا على ضرورة سن تشريعات محددة لتنظيم وضع المقاتلين السابقين الذين تخلوا عن الكفاح المسلح، بدلاً من الاعتماد فقط على العفو العام.
ورحبت أنقرة يوم الأحد بإعلان حزب العمال الكردستاني. وقال عمر جيليك، المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية، إن قرار الانسحاب من تركيا واتخاذ خطوات جديدة نحو نزع السلاح كان نتيجة ملموسة للتقدم المحرز.
وفي يوليو/تموز، أقام مقاتلو حزب العمال الكردستاني حفلاً لنزع سلاحهم في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، حيث قام 30 مقاتلاً، من بينهم أربعة قادة، بإحراق أسلحتهم، وهي لفتة وصفها أردوغان بأنها خطوة مهمة نحو “تركيا خالية من الإرهاب”.
وشكلت تركيا لجنة برلمانية لوضع إطار عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، بما في ذلك الانتقال القانوني للجماعة وأعضائها إلى النشاط السياسي. ومن المتوقع أن يستمر عمل اللجنة حتى نهاية العام، مع احتمال التمديد لمدة شهرين، بحسب رئيس البرلمان نعمان قورتولموش.
وتضم اللجنة 48 نائباً، 25 منهم من الائتلاف الحاكم الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية؛ و10 من حزب الشعب الجمهوري المعارض؛ وأربعة من حزب المساواة والديمقراطية المؤيد للأكراد.
وطالب صبري أوك اللجنة البرلمانية بزيارة أوجلان على الفور، ووصفه بأنه مفتاح حل المسألة الكردية، التي قال إنها لا يمكن تسويتها ما دام زعيمها مسجونا. ودعا إلى الحرية الجسدية لأوجلان، قائلا إنه يجب أن يكون قادرا على العيش والعمل بحرية.
وإلى جانب إجراءات المصالحة، من المتوقع أيضًا أن تحدد اللجنة مصير أوجلان. ويقضي حكما بالسجن مدى الحياة في الحبس الانفرادي في جزيرة إمرالي قبالة إسطنبول منذ عام 1999.
وذكرت وسائل إعلام تركية أن وفداً من حزب المساواة والديمقراطية سيلتقي أردوغان خلال الأيام المقبلة قبل أن يسافر إلى إمرالي لزيارة أوجلان. ويظل إطلاق سراحه أحد المطالب الرئيسية لحزب العمال الكردستاني في إطار عملية السلام.
ويقول محللون إن مبادرة السلام التي طرحتها أنقرة أتاحت لأوجلان فرصة للنأي بنفسه عن الكفاح المسلح في وقت تم فيه إضعاف حزب العمال الكردستاني وأصبح الرأي العام الكردي يشعر بالضجر بعد عقود من الصراع.
ومنذ بدء المحادثات في تشرين الأول/أكتوبر 2024، تلقى أوجلان عدة زيارات عائلية والتقى بمفاوضين من حزب المساواة والديمقراطية. وفي الشهر الماضي، سُمح له بمقابلة محاميه للمرة الأولى منذ عام 2019.
على مدار العقد الماضي، لجأ معظم مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى المناطق الجبلية في شمال العراق، حيث احتفظت تركيا بقواعد عسكرية لمدة 25 عامًا، وتشن بانتظام عمليات جوية وبرية ضدهم.
ويأمل الأكراد في تركيا أن يؤدي تخلي حزب العمال الكردستاني عن الكفاح المسلح إلى تمهيد الطريق لتسوية سياسية مع أنقرة وفتح آفاق جديدة للأقلية الكردية التي تمثل نحو خمس سكان البلاد البالغ عددهم 85 مليون نسمة.