في الوقت الذي تتغير فيه الديناميكيات الجيوسياسية ويعاد رسم المناظر الطبيعية الثقافية والدينية، فإن لحظات دبلوماسية معينة تتجاوز البروتوكول وتكشف عن القوى الأعمق التي تربط الدول ببعضها البعض. هذا هو المعنى الكامن وراء الزيارة التي قام بها وفد ثقافي وأكاديمي ألباني متميز إلى مؤسسة علال الفاسي في الرباط يوم السبت 22 نوفمبر/تشرين الثاني، وهي اللحظة التي احتل فيها الفكر، وليس السياسة، مركز الصدارة كجسر بين البلدين اللذين يشتركان في روابط أكثر مما قد يفترض المرء.
وكان في استقبال الوفد الألباني نزار بركة، رئيس المؤسسة، إلى جانب هاني الفاسي نجل الزعيم الوطني الراحل علال الفاسي، وعبد الله الودغيري، وسعيد تمسماني، ومختار بقا. وترأس الوفد الألباني الدكتور آربين رامكاج، رئيس مركز التعاون بين الأديان، وانضم إليه الدكتور ألبرت راكيبي، رئيس المعهد الألباني للدراسات الدولية، والدكتور أريان ستاروفا، رئيس المجلس الأطلسي لألبانيا، والدكتورة إلفيرا فيتاهو، نائب رئيس جامعة إلباسان.
إن الأمر الأكثر أهمية في هذا اللقاء لم يكن مجرد بروز المشاركين، بل طبيعة الحوار ونوع الشراكة المتوخاة. وسرعان ما تحول الاجتماع إلى تبادل مدروس حول مستقبل التعاون الأكاديمي والفكري والبحثي بين مؤسسة علال الفاسي، إحدى المؤسسات الثقافية والعلمية الرائدة في المغرب، ونظيراتها الألبانية.
ولم يسافر الوفد الألباني إلى الرباط للاحتفال أو المجاملة. لقد جاءت بهدف واضح: إقامة شراكة فكرية طويلة الأمد مع مؤسسة تحظى بثقلها التاريخي والرمزي المعترف به في جميع أنحاء المنطقة. وتطرق البحث إلى إمكانية توقيع مذكرات تفاهم تشمل التبادل الأكاديمي ودعم البحوث والمبادرات العلمية المشتركة وتعزيز التعاون الثقافي.
وبعيداً عن كونها زيارة روتينية، فقد وضع اللقاء الأساس لما يمكن أن يتطور إلى تحالف قائم على المعرفة، مما يعكس القناعة المشتركة بأن العلاقات المستدامة بين الدول لا تقوم على المصالح السياسية فحسب، بل أيضاً على رأس المال الفكري والتقارب الثقافي.
وكان أحد الأبعاد البارزة للاجتماع هو التقارب القوي حول أهمية الحوار بين الأديان والثقافات كأداة لتعزيز الاستقرار والتعايش والسلام. إن تجربة المغرب المعترف بها دوليا في مجال الاعتدال الديني، والمتجذرة في التراث الروحي المتوازن والإصلاحات المؤسسية المتطلعة إلى المستقبل، تجد صدى طبيعيا في تقاليد ألبانيا الطويلة الأمد المتمثلة في الانسجام الديني.
ويدرك كلا البلدين أن التعاون في مجال الأفكار ليس رمزياً فحسب؛ إنها استراتيجية. فهو يعزز الالتزام المشترك بالاعتدال في وقت حيث تتسم البيئة العالمية على نحو متزايد بالاستقطاب والتفتت الثقافي.
لقد أظهرت مؤسسة علال الفاسي مرة أخرى قوة الدبلوماسية الفكرية المغربية، وهي دبلوماسية راسخة في الذاكرة الوطنية، ولكنها موجهة بجرأة نحو العالم. وبالمثل، أظهر الوفد الألباني نية واضحة لإضفاء الطابع المؤسسي على هذه العلاقة من خلال شراكات أكاديمية وبحثية منظمة.
ويعكس هذا النهج اتجاهاً عالمياً حيث أصبحت المعرفة ورأس المال الثقافي قوى أساسية للقوة الناعمة، مما يمكن الدول من بناء جسور أكثر استدامة من الاتفاقيات السياسية.
كان اجتماع الرباط أكثر بكثير من مجرد تبادل رسمي للآراء. لقد كانت لحظة سلطت الضوء على حقيقة عميقة: وهي أن التفاهم الحقيقي بين الأمم يبدأ بالأفكار، وكثيراً ما تنجح الثقافة عندما تفشل الدبلوماسية التقليدية. لقد وضع المغرب وألبانيا الآن حجرا جديدا واعدا في أساس علاقاتهما الثنائية، حجر أساس الاحترام المتبادل والفضول الفكري والرؤية المشتركة لمستقبل مبني على التعاون والحوار.
وإذا كان هذا الاجتماع يحمل رسالة، فهي أن العالم اليوم يحتاج إلى مثل هذه الجسور، الجسور التي لا تُبنى من الفولاذ والخرسانة، بل من الكلمات والأفكار والتطلع المشترك للسلام والشراكة.