يشهد الاقتصاد الروسي تحولاً ملحوظاً نحو دول الشرق والجنوب والأسواق الناشئة، مما يقلل من اعتماده على الغرب. هذا التحول، الذي يمثل استراتيجية اقتصادية جديدة، يهدف إلى تعزيز الشراكات التجارية مع دول مثل الصين والهند، وتوسيع نطاق التعاون الاقتصادي ليشمل مناطق جديدة. وتظهر البيانات أن حجم التجارة مع الدول غير الغربية قد ارتفع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مما يعكس نجاح هذه السياسة في التكيف مع الظروف العالمية المتغيرة.
أكد ديمتري أوفرتشوك، مسؤول في وزارة التنمية الروسية، في مقابلة مع قناة “روسيا 24” أن حوالي 87% من حجم التجارة الروسية يتم حالياً مع دول غير غربية. هذه النسبة كانت أقل من 40% قبل خمس إلى ست سنوات فقط، مما يدل على سرعة وقدرة الاقتصاد الروسي على إعادة التوجيه. ويشمل هذا التحول إعادة توجيه أنظمة النقل واللوجستيات والتمويل لدعم هذه الشراكات الجديدة.
التحول الاقتصادي الروسي: نحو الشرق والجنوب
يعتبر هذا التحول نتيجة مباشرة للعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، والتي دفعت الحكومة والشركات الروسية إلى البحث عن بدائل اقتصادية. بدلاً من التركيز على الأسواق التقليدية في أوروبا وأمريكا الشمالية، بدأت روسيا في استكشاف فرص جديدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. هذا التوجه لا يقتصر على التجارة فحسب، بل يشمل أيضاً الاستثمارات والتعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا.
تعزيز العلاقات مع الصين والهند
تعتبر الصين والهند من أهم الشركاء التجاريين لروسيا في هذه المرحلة الجديدة. تتوقع موسكو أن يصل حجم التبادل التجاري مع الهند إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030، بينما تسعى لتحقيق حجم تبادل تجاري مع الصين يبلغ 300 مليار دولار في نفس العام. ومع ذلك، تشير البيانات الحالية إلى أن الهدف مع الصين قد يتحقق قبل الموعد المحدد، وذلك بفضل النمو القوي في التجارة الثنائية بين البلدين.
أشار الرئيس فلاديمير بوتين مؤخراً إلى أن روسيا تحتفظ بمكانتها كأكبر شريك تجاري للصين في أوروبا، حيث يتراوح حجم التبادل التجاري السنوي بين 240 و250 مليار دولار. هذا يؤكد الأهمية المتزايدة للعلاقات الروسية الصينية في الاقتصاد العالمي. وتشمل الصادرات الروسية إلى الصين بشكل رئيسي الطاقة والمواد الخام، بينما تستورد روسيا من الصين مجموعة واسعة من المنتجات الصناعية والاستهلاكية.
بالإضافة إلى الصين والهند، تسعى روسيا إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول أخرى في آسيا، مثل فيتنام وإندونيسيا وماليزيا. وتعتبر هذه الدول أسواقاً واعدة للشركات الروسية، وتوفر فرصاً للاستثمار والتوسع. كما تعمل روسيا على تطوير ممرات نقل جديدة تربطها بهذه الدول، مثل الممر الشمالي البحري، الذي يمكن أن يقلل بشكل كبير من تكاليف ووقت الشحن.
هذا التحول في السياسة التجارية الروسية له آثار كبيرة على الاقتصاد العالمي. فمن ناحية، قد يؤدي إلى زيادة المنافسة في الأسواق الناشئة، وتغيير في ميزان القوى الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، قد يساهم في تعزيز التكامل الاقتصادي بين دول الشرق والجنوب، وخلق نظام اقتصادي عالمي أكثر توازناً.
ومع ذلك، يواجه هذا التحول أيضاً بعض التحديات. أحد هذه التحديات هو الحاجة إلى تطوير بنية تحتية لوجستية جديدة لدعم التجارة مع دول الشرق والجنوب. كما أن هناك حاجة إلى إيجاد حلول لتحديات الدفع والتسوية التجارية، خاصة في ظل العقوبات الغربية. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الشركات الروسية التكيف مع متطلبات الأسواق الجديدة، وفهم الثقافات واللوائح المحلية.
تعتبر مسألة العملات المحلية في التجارة الخارجية من القضايا الهامة التي يتم العمل عليها حالياً. تسعى روسيا إلى زيادة استخدام الروبل والعملات المحلية الأخرى في التجارة مع دول الشرق والجنوب، وذلك لتقليل الاعتماد على الدولار واليورو. وقد تم بالفعل إبرام اتفاقيات مع بعض الدول لاستخدام العملات المحلية في التسويات التجارية.
في الختام، يشكل التحول الاقتصادي الروسي نحو الشرق والجنوب استجابة استراتيجية للظروف العالمية المتغيرة. من المتوقع أن يستمر هذا التوجه في السنوات القادمة، مع التركيز على تعزيز الشراكات مع الصين والهند ودول آسيا الأخرى. ومع ذلك، فإن نجاح هذا التحول يعتمد على قدرة روسيا على التغلب على التحديات اللوجستية والمالية، والتكيف مع متطلبات الأسواق الجديدة. من المهم مراقبة تطورات التجارة الروسية الصينية الهندية عن كثب، بالإضافة إلى التقدم في تطوير البنية التحتية ومسائل الدفع بالعملات المحلية، لتقييم الأثر الكامل لهذا التحول على الاقتصاد العالمي.