يشهد سوق العمل في المنطقة والعالم ظاهرة جديدة تُعرف باسم “عناق الوظيفة“، حيث يختار الموظفون البقاء في وظائفهم الحالية على الرغم من الشعور بالإحباط أو عدم الرضا، أو حتى وجود فرص أفضل متاحة. هذه الاستراتيجية، وفقًا لخبراء الموارد البشرية، هي استجابة لعدم اليقين الاقتصادي العالمي والرغبة في الحفاظ على الاستقرار في ظل الظروف المتغيرة. وتؤثر هذه النقطة على كل من الموظفين وأصحاب العمل على حد سواء.
وتظهر الأبحاث أن هذه الظاهرة ليست مجرد اتجاه عابر، بل هي سلوك متزايد الجذور. ففي الولايات المتحدة، كشف تقرير صادر عن موقع “Monster” أن 75% من الموظفين يخططون للبقاء في وظائفهم الحالية حتى عام 2027، مع إرجاع ذلك بشكل أساسي إلى الخوف من التدهور الاقتصادي. وتُظهر دولة الإمارات العربية المتحدة أنماطًا مماثلة، على الرغم من نموها الاقتصادي القوي.
تزايد ظاهرة عناق الوظيفة وأسبابها
تُظهر تجارب العديد من المهنيين، مثل “ميرا” (اسم مستعار)، أن عملية البحث عن وظيفة جديدة أصبحت مرهقة وغير مضمونة. ميرا، التي تعمل في نفس الشركة منذ أربع سنوات، توقفت عن التقدم للوظائف بعد فترة من المحاولات، ليس بسبب فقدان الرغبة في التغيير، بل بسبب الإرهاق الناتج عن عدم اليقين والرفض المتكرر.
وتقول ميرا: “أفضل البقاء في مكاني، حتى لو كان غير مريح، بدلاً من عدم اليقين والمخاطرة بكل شيء. إن عدم اليقين هو ما يخيفني”. وتضيف أن العروض التي تلقتها إما كانت غير مرضية من الناحية المالية أو لا تتناسب مع خبرتها وتطلعاتها المهنية.
تغير أولويات الموظفين
تعتبر سارة يحيى، وهي قائدة موارد بشرية عالمية، أن “عناق الوظيفة” ليس علامة على الكسل أو نقص الطموح، بل هو رد فعل عقلاني على سوق عمل أصبح أكثر تنافسية وعدائية. وتشير إلى أن مفهوم النجاح قد تغير، حيث أصبح البقاء الذكي في الوظيفة الحالية أكثر أهمية من السعي السريع للترقي.
وتوضح يحيى أن حوالي نصف العمال يفضلون البقاء في وظائفهم بسبب المخاوف الاقتصادية، والكثيرين يخططون للبقاء لسنوات قادمة. وتؤكد أن الطموح لم يختفِ، بل تطور ليشمل تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الإيجار والرعاية الصحية، وتجنب فترة طويلة من البطالة.
تأثير عدم الثقة في مكان العمل
بالإضافة إلى ذلك، تكشف هذه الظاهرة عن تراجع في الثقة بين الموظفين وأصحاب العمل. فالشركات التي تتوقع الولاء في أوقات عدم اليقين ولكنها ترد بالصمت أو التسريح تخلق بيئة من عدم الأمان. ونتيجة لذلك، يقلل الموظفون من استثماراتهم العاطفية في العمل.
من ناحية الرفاهية، يمكن أن يؤدي البقاء في وظيفة غير مُرضية إلى الشعور بالخمول العاطفي وانفصال الموظف عن عمله، على الرغم من استمرار إنتاجيته الظاهرية.
ديناميكيات التوظيف المتغيرة في الإمارات
في سوق الإمارات، يلاحظ خبراء التوظيف اتجاهًا مماثلاً نحو الاستقرار. يقول الرئيس التنفيذي لشركة “TalentOne” (التابعة لشركة Pure Health) إن المهنيين يفضلون البقاء في وظائفهم الحالية حتى في ظل وجود فرص جديدة محتملة.
ويوضح: “هذا التحول ملحوظ جدًا. أصبحت دورات اتخاذ القرار أطول، والمرشحون أكثر حذرًا بكثير. هذا ليس نقصًا في الطموح، بل وقفة استراتيجية”. ويضيف أن عدم اليقين الاقتصادي العالمي، وارتفاع تكاليف المعيشة، والاعتبارات المتعلقة بالإقامة كلها عوامل مؤثرة.
ونتيجة لذلك، تغيرت سلوكيات المرشحين. فقد زادت حالات الانسحاب من عمليات التوظيف في مراحل متأخرة، ورفض العروض بعد قبولها شفهيًا، وطلب المزيد من الوقت لاتخاذ القرار.
ويحذر خبراء التوظيف أصحاب العمل من أن “عناق الوظيفة” قد يخلق وهمًا بالاستقرار، حيث قد يكون العديد من الموظفين غير مندمجين بصمت وينتظرون الفرصة المناسبة للرحيل. ويشددون على أهمية بناء الثقة وتعزيز الرفاهية في مكان العمل للحفاظ على الموظفين الموهوبين.
من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه في المدى القصير إلى المتوسط، خاصةً مع استمرار حالة عدم اليقين الاقتصادي العالمي. سيتعين على الشركات التكيف مع هذه الديناميكيات الجديدة من خلال تقديم حزم تعويضات تنافسية، وتوفير فرص للتطوير المهني، وبناء ثقافة عمل إيجابية تعزز الولاء والالتزام. سيظل مراقبة مؤشرات البطالة ونشاط التوظيف في القطاعات المختلفة أمرًا بالغ الأهمية لتقييم مدى تأثير هذه الظاهرة على سوق العمل.