بغداد
اتخذت العلاقات العراقية التركية منعطفا غير مسبوق له انعكاسات عميقة على السيادة الوطنية، بعد توقيع الآلية التنفيذية لاتفاقية التعاون الإطاري بين البلدين في مجال المياه.
وكشف مصدر مطلع نهاية الأسبوع الماضي عن تفاصيل رئيسية لهذه الآلية، مشيراً إلى أنها تقضي بتخلي العراق عن صلاحياته الحيوية في إدارة المياه مقابل حزمة من المكاسب الفورية والطويلة الأمد، أبرزها إطلاق مليار متر مكعب من المياه للعراق خلال الأيام المقبلة.
ويسعى الاتفاق إلى توفير “حلول مستدامة لأزمة المياه في العراق”، بحسب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي أشرف على التوقيع بين وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ونظيره التركي هاكان فيدان.
ووصف الحسين وثيقة إدارة المياه بأنها «الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الثنائية»، إلا أن التفاصيل المسربة تكشف التكلفة السيادية لهذا الحل «المستدام».
وقال مصدر لوكالة شفق نيوز، إن الاتفاقية الموقعة بين الجانبين “تتضمن عدة بنود وهي الأولى من نوعها بالنسبة للعراق”.
وفي قلب هذه البنود يكمن نقل الإدارة الفنية والتشغيلية الكاملة لنظام المياه العراقي إلى الجانب التركي على أساس مؤقت.
وتنص الشروط على أن “يتم إطلاق المياه تحت إشراف وإدارة تركيا”، إلى جانب إدارتها المباشرة “للبنية التحتية المائية (السدود وإدارة توزيع المياه بالكامل)” داخل الأراضي العراقية.
وستستمر هذه الإدارة التركية الشاملة لمدة خمس سنوات كاملة، على أن تعود السيطرة بعدها إلى العراق عند انتهاء المدة المتفق عليها.
علاوة على ذلك، أكد المصدر أن “جميع الجوانب اللوجستية والفنية المتعلقة ببناء السدود والبنية التحتية للمياه ستتم إدارتها حصريًا من قبل تركيا”، مما يؤدي فعليًا إلى تهميش الخبرة الوطنية العراقية في هذه القطاعات الحيوية لمدة خمس سنوات.
ويعد العراق، الذي يعتمد بشكل أساسي على نهري دجلة والفرات، من بين الدول الأكثر تضررا من تغير المناخ والسياسات المائية لدول المنبع، وخاصة تركيا.
أدت السدود التركية الضخمة، مثل سد إليسو، المبني على نهر دجلة، إلى انخفاض كبير في تدفق المياه إلى العراق، مما تسبب في جفاف الأراضي الزراعية الشاسعة في الجنوب والوسط، ونزوح مئات الآلاف من المزارعين وتفاقم التصحر.
ووصف تقرير للأمم المتحدة العراق بأنه يواجه “أزمة مياه وجودية”، حيث توقعت الدراسات أن تنخفض مستويات الأنهار بنسبة تصل إلى 70 بالمائة بحلول عام 2035.
لسنوات، شكلت قضية المياه تحديا سياسيا ودبلوماسيا مستمرا بين بغداد وأنقرة، حيث سعى العراق إلى تأمين حصة عادلة من المياه تتجاوز الترتيبات المؤقتة.
وقد تقدم هذه الخطوة الأخيرة حلاً بنيوياً، ولكنه حل يأتي بتكلفة سيادية كبيرة.
وبحسب المصدر فإن الجانب التركي تعهد بإطلاق مليار متر مكعب من المياه للعراق خلال الأيام المقبلة، مؤكدا أن هذه الإطلاقات لن تؤثر على احتياطيات تركيا المقدرة بـ90 مليار متر مكعب.
وأوضح المصدر أن المليار متر مكعب سيتم إطلاقه على مراحل “لتحقيق الاستقرار المائي في العراق وإنهاء الأزمة التي تعيشها البلاد”.
وأضاف أن البنود التي تمنح تركيا السيطرة على إدارة البنية التحتية، إلى جانب بنود أخرى في الاتفاقية، والتي من المتوقع أن تتم المصادقة عليها بعد مراجعتها من قبل السلطات القانونية، تأتي مقابل فوائد اقتصادية كبيرة للعراق.
وتشمل هذه الفوائد إلغاء الديون التركية المستحقة على العراق، فضلاً عن زيادة حجم التجارة الثنائية إلى “ما لا يقل عن 30 مليار دولار”.
وأكد وزيرا الخارجية العراقي والتركي، الأحد الماضي، أن هذه الخطوة جاءت بعد سلسلة من الاجتماعات والمناقشات المكثفة حول التعاون في مجال المياه ومشاريع البنية التحتية ذات الصلة، بهدف ضمان “الاستخدام المستدام للموارد المائية وخدمة مصالح البلدين”.
وعلى الرغم من الفوائد المباشرة التي يمثلها إطلاق المياه وتخفيف الديون، فإن البند الذي يمنح تركيا السيطرة على البنية التحتية للمياه في العراق لمدة خمس سنوات يثير تساؤلات جدية حول سيادة العراق على واحد من أكثر موارده حيوية.
ومن المتوقع أن يثير هذا البند جدلا قانونيا وسياسيا كبيرا داخل العراق، حيث تعتبر المياه مسألة أمن قومي لا يمكن وضعها تحت إدارة أجنبية.
وبينما تقدم الاتفاقية حلاً قصير المدى للنقص الحاد في المياه في العراق، فإنها تشكل أيضاً سابقة تاريخية قد تلقي بظلالها الطويلة على سيطرة البلاد المستقبلية على مواردها الاستراتيجية.