تتسم ردود الفعل السياسية العراقية تجاه التوغل التركي في الأراضي العراقية بمواقف متناقضة وغموض وحالة من الرضا عن النفس.
وتتباين الآراء بين من يزعم أن التوغل جاء ضمن اتفاق مع الحكومة العراقية، كما صرح مستشار رئيس الوزراء العراقي، وبين من يعتبره احتلالاً تركياً بتوغل يزيد عمقه عن 40 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية.
ويختلف السيناريو الحالي للغزو التركي عن السيناريوهات السابقة، حيث إن الضربات الجوية هذه المرة ليست محدودة بزمن، فهي عملية بلا سقف، تجري على أرض عراقية، ومن المرجح أن تدمر العديد من المدن والقرى داخل العراق، وقد تصل إلى سنجار.
ومن الغريب أن الحكومة العراقية تحاول تبرير الغزو التركي بتقديمه كجزء من الحرب ضد حزب العمال الكردستاني.
وأعلنت بغداد قبل أشهر أن قوات حرس الحدود الاتحادية ستكون مسؤولة عن الحدود مع تركيا بدلا من القوات الكردية، وتم تأكيد هذا القرار خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق، لكن ذلك لم يمنع التصعيد العسكري من جانب تركيا.
لا يمكن وصف الغزو التركي إلا بأنه احتلال مكشوف. وتستخدم تركيا كغطاء قانوني اتفاقية قديمة تم التوصل إليها في عهد الرئيس السابق صدام حسين، ووقعها وزير الخارجية آنذاك طارق عزيز مع نظيره التركي في عام 1984. وقد سمحت الاتفاقية للقوات التركية بالدخول إلى الأراضي العراقية ولكن ليس أكثر من خمسة كيلومترات. وعلاوة على ذلك، فقد سمح الاتفاق للقوات التركية بالعمل العسكري لمدة لا تتجاوز العام. وعلى عكس الادعاءات الواهية، لا توجد مذكرات تفاهم تسمح لتركيا باحتلال الأراضي العراقية.
ومن المفارقات أن أنقرة، في الوقت الذي تغزو فيه العراق، تركز على إيجاد حل دبلوماسي للأزمة السورية. ولا يستبعد أبطال السياسة في العراق احتمال أن تكون تركيا قد حصلت على الضوء الأخضر الأميركي والغربي لغزوها.
وتتوقع مصادر سياسية التوصل إلى اتفاق من شأنه أن يؤسس للقاء يجمع تركيا وسوريا تحت رعاية العراق، في إطار مساعي بغداد لمعالجة قضية وجود حزب العمال الكردستاني.
وبما أن العراق مقيد بدستوره الخاص، فإنه يفضل أن تنفذ تركيا أوامره بينما يسعى إلى حل قضية حزب العمال الكردستاني على نفس الأسس التي استخدمها لمعالجة وجود الأكراد الإيرانيين على الأراضي العراقية.
وتستمر تركيا في فرض حظر جوي على مطار السليمانية، وتعرب عن استيائها من تقارير استخباراتية تشير إلى تحرك عناصر حزب العمال الكردستاني ذهاباً وإياباً بين السليمانية والمناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وصلت السياسة العراقية إلى الحضيض مع استقبال رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض للسفير التركي في العراق وتقديمه درع الحشد الشعبي له، في وقت تُداس فيه السيادة العراقية على يد الجيش التركي.
ولم تتخذ الحكومة العراقية أي إجراء جدي يتناسب مع العدوان التركي، باستثناء إرسال وفد برئاسة مستشار الأمن الوطني العراقي قاسم الأعرجي إلى إقليم كردستان من أجل التعرف على الأوضاع في المنطقة.
إن التصعيد العسكري التركي داخل الأراضي العراقية يرسم صورة قاتمة لكيفية تطور الأحداث. ومن المرجح أن يترسخ الاحتلال التركي بشكل أكبر مما يؤدي إلى إنشاء “منطقة تركية” في شمال العراق.
ولم تكن هذه أول توغلات للقوات التركية، فقد حدثت توغلات أخرى خلال السنوات الأخيرة، حيث كشف رئيس أركان الجيش العراقي في يوليو/تموز 2022 عن وجود خمس قواعد عسكرية تركية كبرى وأكثر من أربعة آلاف مقاتل تركي، بالإضافة إلى وجود 100 نقطة تركية داخل الأراضي العراقية.
لقد تم تهجير سكان قرى بأكملها من الأراضي العراقية المحتلة، كما قال شهود عيان، مما يوضح التناقض الصارخ بين الحرب الشرسة التي تشنها تركيا وبين لامبالاة السلطات العراقية. والواقع أن بغداد تحاول التقليل من أهمية الغزو التركي وتشويهه بتصريحات رسمية متناقضة.
يعيش العراق فترة مظلمة بعد أن أصبح فريسة للحيوانات المفترسة المجاورة.
لا يمكن لأي كلمات الحزن أن تخفف من المصير المأساوي الذي حل بالعراق، البلد الذي فقده بسبب المتدربين السياسيين في صفوفه.