الارتجال الحكومي يحكم اليوم في الجزائر بعد صدمة مجلس الأمن الدولي
وتزامنت انتكاسة السياسة الخارجية مع تصاعد الضغوط الداخلية.

الجزائر العاصمة
في الأيام التي تلت القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي بشأن الصحراء، أصبح من الواضح أن الجزائر دخلت مرحلة من الارتباك غير المسبوق.
فالحكومة، التي حاولت عادة اتخاذ موقف حازم في مواجهة الأزمات الخارجية، وجدت نفسها فجأة في مواجهة واقع لا يمكن إنكاره: هزيمة دبلوماسية حطمت روايتها التاريخية حول الصراع، وتعميق العزلة الإقليمية وتعزيز التوترات الاجتماعية في الداخل وسط المشاكل الاقتصادية.
ولعل البيان الأخير لمجلس الوزراء الجزائري، الذي انعقد يوم الأحد الماضي برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون، بمضمونه المركز ووعوده الكثيرة، لم يكن إلا يعكس قلق السلطات في مرحلة حرجة.
وبدلاً من الظهور كوثيقة صادرة عن حكومة ذات رؤية واضحة، بدا البيان وكأنه محاولة للتستر على أزمة طال أمدها، وإقناع الجمهور المحلي والدولي بأن الدولة لا تزال مسيطرة، على الرغم من الحقائق اليومية التي تروي قصة مختلفة تماماً.
وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول، صوّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لصالح قرار يدعم خطة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء الغربية باعتبارها الحل “الأكثر جدوى” للنزاع.
وقال قرار مجلس الأمن الدولي إن “الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية يمكن أن يشكل الحل الأكثر جدوى”، ودعا الأطراف إلى الانخراط “دون شروط مسبقة” في مفاوضات على أساس خطة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب لأول مرة إلى الأمم المتحدة في عام 2007.
ومنذ صدور قرار الأمم المتحدة هذا، واجهت الحكومة الجزائرية مأزقًا رهيبًا. لقد كرّس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة خيار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية باعتباره الحل الأكثر واقعية للصراع، مما وجه ضربة قاسية لفرضية “الاستفتاء” التي قامت عليها الجزائر لعقود من خطاب سياستها الخارجية. والأسوأ من ذلك بالنسبة للمسؤولين الجزائريين هو أن القرار اعترف صراحة بالدور المتنامي للمغرب في ترسيخ الاستقرار الإقليمي، على حساب نفوذ جارته الشرقية المتضائل في الاتحاد الأفريقي ومنطقة الساحل.
وتزامنت انتكاسة السياسة الخارجية مع تصاعد الضغوط الداخلية حيث يواجه الجزائريون نقصا متكررا في المواد الغذائية الأساسية في بلد من المفترض أن يكون أحد أكبر المنتجين الزراعيين في المنطقة. وتشهد الأسواق انقطاعات يومية في الإمدادات، وتراجع القوة الشرائية، كما يؤدي التضخم إلى تآكل مدخرات الأسر. وبينما تتحدث الحكومة عن مشاريع السكك الحديدية الضخمة وتطورات التعدين المقبلة، يضطر المواطنون إلى الوقوف في طوابير طويلة للحصول على علبة من الحليب أو كيس من البطاطس.
ويقول المحللون إن التناقض بين خطاب الدولة والواقع على الأرض يجعل القرارات الأخيرة تبدو وكأنها محاولة يائسة لكسب الوقت. وأعلنت الحكومة زيادة الحد الأدنى للأجور وإعانات البطالة، لكن كان عليها أن تأخذ في الاعتبار أن ذلك لا يعالج المشكلة الأساسية وهي التدهور الهيكلي للاقتصاد وتآكل الإنتاج المحلي واستمرار اعتماد البلاد على الاقتصاد الريعي وسط انخفاض أسعار الطاقة. أما بالنسبة للمشاريع الضخمة التي تم الإعلان عنها في البيانات الرسمية، مثل استغلال حقل غاز جبيلات أو خط السكة الحديد إلى الجنوب، فإن العديد من الخبراء الاقتصاديين يعتبرونها مجرد واجهة سياسية لإقناع الجمهور بأن الجزائر على أعتاب الرخاء، على الرغم من أن هذه المشاريع نفسها تم الإعلان عنها مرارا وتكرارا على مدى نصف القرن الماضي ولم تتجسد إلا في الخطب.
وبالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية، يبدو أن الحكومة تواجه أزمة مصداقية مع الأجيال الجديدة، حيث أصبح الخطاب السابق غير فعال على نحو متزايد. لم يعد الشباب الجزائري، الذي يشكل أغلبية السكان، مستعدا لقبول خطابات “المؤامرات الخارجية” أو الوقوع في هاجس قضية الصحراء الغربية. ولا يمكن للأجيال الجديدة إلا أن تقارن وضع بلدها بوضع جارتها الغربية، حيث تشهد البنية التحتية المغربية نموا مثيرا للإعجاب، سواء في تطوير الطرق والسكك الحديدية والموانئ أو في الصناعات. ويتناقض النمو الملموس مع الواقع الجزائري المتواضع، الذي فشل على مدى عقود من الزمن في مجاراة الوعود الكبرى التي قطعتها الحكومة. في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، يكفي مقطع فيديو واحد من الرباط أو طنجة لتحطيم أسطورة “القيادة الإقليمية الجزائرية” التي تحاول السلطات الترويج لها.
وفي هذا السياق، بدا أن الإفراج المفاجئ عن الناشط بوعلام صنصال يدل على عدم قدرة الدولة على الحفاظ على موقف ذي مصداقية بشأن هذه القضية. ولم يُحكم على الكاتب الفرنسي الجزائري بالسجن إلا لأنه أشار إلى حقائق تاريخية معروفة تتعلق بالحدود التي رسمتها فرنسا وضم الأراضي المغربية إلى الجزائر عند الاستقلال. وإدراكاً منها للتأثير المحتمل لهذه القضية على روايتها الرسمية، اختارت الحكومة إغلاق القضية بسرعة، خوفاً من أن تتحول إلى أزمة سياسية. إن إطلاق سراح صنصال، الذي حاولت الرئاسة تقديمه على أنه “لفتة إنسانية”، كان في الواقع مناورة ألمانية جزائرية ضمن تفاهمات فرنسية بقصد احتواء مأزق سياسي يهدد بمزيد من التدهور في علاقات الجزائر مع باريس. ولم يكن إطلاق سراح صنصال مبادرة إنسانية، بل كان جزءا من محاولة واضحة لإعادة فتح قنوات الاتصال مع باريس بعد أشهر من القطيعة الصامتة.
لكن التحدي الأخطر الذي يواجه السلطات الجزائرية اليوم ليس نقص الحليب والخبز، ولا حتى الإحراجات الدبلوماسية المختلفة، بل فقدان الثقة بين المجتمع والدولة. يبدو أن المواطنين الجزائريين عالقون بشكل متزايد بين الخطاب الطموح ولكن الأجوف، والاقتصاد المتدهور بسرعة والمشهد السياسي المنغلق تمامًا، كما يقول المحللون.
وفي هذا النوع من الانفصال، تبدو إجراءات التهدئة التي أعلنتها السلطات الجزائرية وكأنها مجرد مسكنات وليست علاجًا حقيقيًا للظروف الأساسية.
ويعتقد الخبراء أن قرار مجلس الأمن قد أجبر الحكومة على اتباع نمط من التفكير الذاتي. ولم يعد من الممكن إلقاء اللوم على قوى خارجية أو الاستمرار في استحضار الماضي لتبرير إخفاقات الحاضر. لقد أصبح من الواضح أن أزمة الجزائر ليست أزمة موارد، بل أزمة رؤية، وأن التحديات التي تواجه البلاد تتطلب أكثر من مجرد التصريحات الحكومية والحملات الإعلامية. تحتاج الجزائر إلى عقد سياسي جديد وانفتاح حقيقي وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة قبل أن تجد نفسها في مواجهة واقع أكثر قسوة.
فالمنطقة تتغير، والمغرب يخطو خطوات كبيرة، والعالم يعيد ضبط ديناميكيات قوته، في حين يبدو أن الجزائر تتشبث بعصر مضى. إذا لم تغير الحكومة الجزائرية مسارها جذريا، فإن القرارات التي أعلنتها بعد قرار مجلس الأمن لن تكون أكثر من فترة راحة قصيرة على طريق أزمة طال أمدها بدأت بوادرها تظهر في الأسواق أمام المؤسسات، وفي طوابير الخبز أمام الصحف، وعلى وجوه الشباب قبل التصريحات الرئاسية. هذا هو الواقع الذي تحاول الخطابات الرسمية إخفاءه، لكنه واقع يفرض نفسه، فيما يصبح التغيير أمرا لا مفر منه، كما يقول المحللون.