لا يمكن أن نكتفي بالخصومة الشخصية ولا بالمرارة وحدها بين داود الشريان ونديم قطيش. تكمن المعضلة الحقيقية في بنية الإعلام العربي نفسه، ومدى سيطرة المال السياسي على خطابه.
لقد امتد هذا الصدام الثقافي السام بين الشريان وقطيش إلى المجال العام، وجر معه مفهوم حرية الإعلام والصحافة المستقلة ومعنى كونك موظفًا بأجر يحمي وظيفته وينسى جوهر الصحافة.
من السهل اليوم أن نطلق على الصحافة وصف “السلطة الرابعة”، ولكن من الصعب أن نصدق أنها لا تزال كذلك، وخاصة في العالم العربي، حيث تشبه وسائل الإعلام المنشورات الدعائية المصقولة: فهي تجيد التبرير، وماهرة في إخفاء العجز.
إن الأزمة الوجودية التي تواجهها الصحافة اليوم ليست اقتصادية فقط ولا تتعلق بتضاؤل عدد الجماهير. بل يتعلق الأمر بانهيارها أمام قوتين مهيمنتين: السوق المريضة والسلطة السياسية، وليس لدى أي منهما أي مصلحة في وجود صحافة حرة. هذا ما كشفه الخلاف الشخصي بين الصحافيين السعوديين واللبنانيين، وما فسره الجمهور على أنه انعكاس لحرية الإعلام العربي عندما تحتكره السلطة السياسية.
تعاني الصحافة الغربية من أزماتها الخاصة، لكنها لا تزال قادرة على فضح السلطة. فعندما نشرت صحيفة فايننشال تايمز تحقيقا حول شبكات التأثير السياسي في بروكسل، كتب كاتب العمود جون ثورنهيل: “الديمقراطية الفعالة تحتاج إلى صحافة تتحدى السلطة، وليس المحتوى المصمم لتملقها”. إذا كانت الصحافة تخشى التأثير، فيتعين عليها أن تعيد تحديد مهمتها.
في العالم العربي، لا يتم إعادة تعريف المهمات، بل يتم تقليصها. منافذ الوسائط لا تراقب الطاقة؛ قاموا بتطبيعها.
منذ أن أصبحت الصحافة صناعة، فقدت جزءًا من رسالتها. لم تعد تنتج الحقيقة؛ تنتج للسوق. أدى هذا التحول إلى تحويل الصحفيين إلى موظفي علاقات عامة، وليس إلى محررين في غرف الأخبار. وكشف الخلاف بين الشريعان وقطيش أن الإعلام العربي لا يدار من مكاتب التحرير، بل من مكاتب التمويل. ومن ناحية أخرى، كان الدرس التاريخي الذي تركه واضعو دستور الولايات المتحدة هو تفضيلهم لدولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة حرة. يا لها من مثالية لا تكاد تجدها حتى في الصحافة الأميركية، ناهيك عن العالم العربي.
في الصحافة الحرة، يقرر المحرر ما يتم نشره. في الصحافة العربية، المحرر واجهة. فالقرارات تأتي من أعلى، من الممول أو النظام. ولهذا السبب لا يمكن التشكيك في المحتوى: فهو لا يتم إنتاجه داخل الصحافة، بل يُملى عليها. وهذا يجعل الخلاف بين إعلاميين مجرد مسرح، على خشبة لا يمكن التحكم في إضاءتها.
الصحافة الحرة تفترض وجود جمهور حر. لكن الجمهور العربي تم تهميشه، ولم يتم استشارته أو مخاطبته، بل مجرد تلقي التعليمات. إنه لا يطلب الحقيقة لأنه لم يتم تدريبه على الحاجة إليها. فالصحافة التي لا تخاطب عقول الجمهور تصبح نشرة داخلية للنظام، وليست مرآة للمجتمع.
فالصحفي العربي اليوم لا يستطيع تحمل الحياد. فإما أن يكتب المطلوب أو يسكت. إن هذا الاختيار الوحشي لا ينتج الصحافة؛ فهو ينتج المحتوى. والمحتوى لا يفضح السلطة؛ فهو يجملها. ولهذا السبب فإن الخلاف بين الشريان والقطيش ليس شخصياً أو مهنياً فقط؛ إنه يعكس المأزق الذي تعيشه وسائل الإعلام.
مشكلة الإعلام العربي لا تبدأ من المحرر؛ فالأمر يبدأ من الممول، كما أشار الشريانان في حديثه عن دول الخليج. أو كما رأينا في العراق، على سبيل المثال: بمجرد أن أصبح تمويل الإعلام أداة سياسية تستخدمها الحكومات والأحزاب ورجال الأعمال والطوائف، لم تعد الصحافة قادرة على الكتابة عن الفساد دون إذن أو معالجة الفشل دون توجيه. إنها تعيش على هامش السلطة، وتكتب في مناطقها الرمادية، حيث تؤجل الحقيقة إلى إشعار آخر.
إن سوق الإعلام العربي مريض بالفعل. لكن الأمر الأكثر مرضاً هو النظام السياسي الذي يصر على إبقاء الأزمة دون علاج. فالصحافة الحرة تهدد الأنظمة الفاشلة لأنها تسمي الأشياء كما هي. ولهذا السبب، تحاول معظم الحكومات العربية، بدلاً من دعم الصحافة، كسرها، لأنها تجعلها تشعر بأنها مكشوفة.
منذ سنوات كتبت: من الواضح أن الحكومات العربية لا تضع استراتيجيات لإنقاذ الصحف من الأزمات. إنهم يفضلون رؤيتهم وهم يترنحون، ثم يُخضعونهم، كما فعلوا عبر التاريخ الحديث. لكن بترك وسائل الإعلام للنضال دون دعم، فإنهم يرتكبون خطأً فادحاً: إنهاء وجود الصحافة الحرة وفتح الباب أمام الفساد والانحلال المؤسسي وخنق الأفكار والمواهب. فالصحافة، باعتبارها قوة تاريخية، ليست مونولوجًا للأخبار الحكومية وحدها. وهي اليوم تدفع ثمن نجاحها، بالحصار المالي حتى الموت.
التصنيف الأخير لمنظمة مراسلون بلا حدود وضع معظم الدول العربية في أسفل مؤشر حرية الصحافة، مشيرًا إلى “بيئة معادية حيث تتم إدارة وسائل الإعلام بقبضة أمنية وتفرض رقابة غير مرئية”. ومن عجيب المفارقات أن هذا يتم غالبا باسم “محاربة الأخبار المزيفة”، وهو العذر الأكثر فتكا ضد الحقيقة في القرن الجديد.
وليس من المستغرب أن تجد الصحف الكبرى الصادرة في العواصم العربية مليئة بالآراء المعلبة والتقارير الخالية من المصادر والأخبار المنسوبة إلى «مصادر مطلعة» تعيش في الخيال. الكارثة ليست فقط غياب الاستقلال، بل هي تحول الصحافة إلى خادم مخلص للحكومة والأحزاب والطائفية والأثرياء، بدلا من أن تكون مرآة للمجتمع.
ومع ذلك، فإن الطريق إلى الخلاص لا يكمن في الرثاء ولا في الصراعات الثقافية السامة على غرار الشريان والقطيش. ما تحتاجه وسائل الإعلام العربية المستقلة ليس مجرد التمويل؛ إنها تحتاج إلى حماية مبدئية لحقها في الخطأ والتصحيح، وفي التشكيك بدلاً من التبرير، والكشف بدلاً من الترويج. ومن دون استثمار الإرادة السياسية في تأمين مساحة إعلامية مستقلة، ستبقى الصحافة أداة في أيدي الفشل السياسي، تماماً كما يقصد أولئك الذين فشلوا في السياسة.
إن الأزمة الوجودية التي نواجهها اليوم ليست أزمة الصحافة فحسب، بل هي أزمة المجتمع؛ مجتمع أصبح جاهلا ومجزأ حتى تخلى عن حاجته إلى الحقيقة. أما الصحافي العربي فهو الآن أمام خيارين: أن يكتب المطلوب كما وصف الشريان، أو أن يسكت كما يقول قطيش.