لماذا المفاجأة عندما تظهر في الإطار نفسه المطربة عفيفة اسكندر والروائية شهد الراوي، صورة عراق لا يتحمل امرأة جميلة تغني أو تكتب؟
بين صوت مطرود من الاعتراف لجماله، ونص مطرود من النقد لأنه أنثوي بلا اعتذار، تتقاطع تجربتان نسائيتان في التاريخ العراقي الحديث: عفيفة اسكندر التي غنت قبل أن يسمعها أحد، وشهد الراوي التي كتبت قبل أن تقرأها العيون العراقية بإنصاف. واجهت كلتاهما نفس الاتهام: أن تكوني امرأة وتنتجي المعنى هي جريمة لا تغتفر في نظر الذوق النقدي الذي يهيمن عليه الذكور في العراق.
في الأربعينيات من القرن الماضي، لم يكن يُنظر إلى عفيفة على أنها صوت، بل على أنها جمال فائض. لقد تردد الملحن العراقي صالح الكويتي في كتابة الموسيقى لها، ليس بسبب ضعف الأداء، بل لأنه انزعج من امرأة تغني ليس كضحية، بل ككائن معبر بالكامل. قدم لها أغنية واحدة فقط قبل هجرته إلى إسرائيل، فيما سكب آلام تلك السنوات وأسئلتها على أصوات سليمة مراد وزكية جورج.
قرأت كل ما كتبته شهد الراوي، ممسكة بقلم رقيق وآسر يثير الشوق والألم والتساؤلات، حتى في مقالاتها الصحفية. وأنا أنتظر روايتها الثالثة، أتذكر كيف أغلقت عفيفة إسكندر الباب في وجهي ذات مرة في بغداد، في ذروة اعتزالها وعزلتها. جئت بشغف صحفي، أحمل أسئلة عن صورتها مع علي الوردي، وكيف كانت تشعر بالألم على أنغام خزعل مهدي وأحمد الخليل. لم تكن ترفضني كصحفية، بل كانت ترفض زمناً كان يعتبرها مجرد ماضٍ مستهلك.
وانهالت العبارات الموسيقية أمام صوتها، ولم يسأل عنها أحد عندما اختفت فجأة. لم تعرفها الذاكرة العراقية إلا بعد أن صمتت، ولم تتوقف إذاعة بغداد عن بث أغانيها. وكأن العراق لا يستمع للنساء إلا عندما يتوقفن عن الكلام.
لغة شهد الراوي لم تخرج من مقاهي البرلمان أو حسن عجمي أو البرازيل، ولم تلعب دور الضحية، السمة المميزة للأدب العراقي عندما يتعلق الأمر بالسياسة. جاء صوتها من قبضة الحصار الأعمى والجوع والاحتلال، من جيل يحاول تعريف نفسه بينما خذل العالم كل العراقيين.
كتبت «ساعة بغداد» مثل قوس قزح يظهر فجأة في سماء النثر السردي، الرقيق المبهر، على عكس نحيب ومرثيات القرى. وصلت روايتها إلى جائزة البوكر، وتُرجمت إلى ثماني لغات، لكن النقاد العراقيين لم يروا سوى “كاتبة لا تشبه المؤلفين العراقيين”.
ولا يستطيع أي عراقي أن يملأ رئتيه ويصرخ بكل قوته “حرية”، لأن هدير الدبابات الأميركية حجب كل صوت. توقفت الحرية السياسية، فكرة التحرر من المحتلين، عن كونها مفهومًا وطنيًا وأصبحت مادة للأفلام التاريخية. وفي عام 2018، خاطبت شهد القراء في مهرجان أدنبره الدولي للكتاب باللغة الإنجليزية، من بغداد، المدينة التي تعيش لحظتها التاريخية المشوهة. أصبحت الحرية بالنسبة لها مجموعة من المعاني الجديدة. لقد كتبت رواية تعيش بداخلها، رواية لا تحتاج إلى تلك الصرخة. كان عليها أن تكتب وهي تتهرب من الميليشيات الجديدة التي أطلقها الاحتلال.
في ذلك الخطاب الرائع، ذكّر شهد جمهور إدنبرة بالعبارة الشهيرة التي قالها أشعيا برلين، الفيلسوف والمستشار المفضل لدى مارغريت تاتشر: “إن الحرية للذئاب كانت تعني في كثير من الأحيان الموت للخراف”. وبهذا المعنى، لم تعد الحرية تشير إلى معنى متعالي أو جوهري بالنسبة للعراقيين بعد الاحتلال، بل إلى حرية تحتاج إلى تفسير.
في فوق جسر الجمهورية، كتب شهد مرثاة وطنية لا تطلب التعاطف، بل تستحق الاحترام. أم تتحول إلى صندوق من العظام بعد وفاتها في المنفى، والذاكرة الحية تصر على دفن هذا الصندوق في الأعظمية. داليا، إحدى شخصيات الرواية، تصعد في تفجير على جسر الجمهورية. لم يتم العثور على شيء من جسدها، مما يترك ألم وفاتها حاضرًا في ذاكرة البطل، أو ربما في ذاكرة شهد نفسها. هذا النص لا ينتحب؛ فهو يفكك الخراب. وهذا ما لا يتحمله النقد.
لأن العراق المزيف لم يتصالح قط مع فكرة المرأة كمنتجة للمعنى. يريدها جميلة، أو حزينة، أو صامتة، أو باكية مع الجماهير نحو الأسطورة التاريخية. لكن الغناء مثل عفيفة، أو الكتابة مثل شهد، يهدد الرواية الأدبية التي تحتكر التعبير للعب دور الضحية الدائمة، غير الفعالة في الأداء السياسي المستمر.
عندما يجتمع الجمال واللغة في المرأة، لا يُنظر إليهما على أنهما فن، بل على أنهما خداع. وهذا ما واجهته عفيفة، وما زالت شهد تواجهه.
الصورة المتخيلة التي تضع عفيفة وشهد في نفس الإطار ليست حنيناً، بل هي مقاومة. المقاومة ضد الذوق الذي لا يزال يرى المرأة كمرايا، وليست مرايا مقلوبة. لأن المرآة المقلوبة لا تجمل؛ فهو يفكك الصورة ويعيد تجميعها. وهذا، الذوق السائد لا يمكن أن يتحمله.
كلاهما يمثل العراق المستبعد لأنه لا يصرخ؛ يغني ويكتب. عراق لا يعرفه الخراب، بل زجاجة ماء الورد من عفيفة ولغة شهد الشبيهة بالدانتيل.
وما يفرح هو أن العالم العربي يحتفل اليوم بشهد الراوي كصوت عراقي حقيقي وسط مشهد اجتماعي وسياسي مهترئ، مليئ بالصراخ الطائفي والرثاء. في حين يرى النقد العراقي، للأسف، أن روايتها لا تمثل إلا الأعظمية، مكان كتابها الثاني.
وفي عصر العراق المزيف، أصبحت الحاجة إلى عفيفة وشهد أكثر إلحاحاً. يجسدن الوجه الأنثوي للعراق الذي قاوم التهميش من خلال الجمال والمعنى، وليس من خلال الصراخ أو الادعاء. إنها ليست رموزاً، بل فضائح معلقة في وجه الانتقادات التي لا تزال تخشى المرأة عندما تنتج المعنى.