الرياض
تمثل الزيارة المرتقبة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في 18 تشرين الثاني/نوفمبر لحظة استراتيجية لفهم دور المملكة الرائد في تشكيل سياسات السلام في الشرق الأوسط.
وتأتي الزيارة في منعطف حساس للسياسة الإقليمية، حيث يتصارع الشرق الأوسط مع القضايا المعقدة المرتبطة بالقضية الفلسطينية، والوضع في غزة، والضغوط الأمريكية لتوسيع اتفاقيات إبراهيم لتشمل المملكة العربية السعودية.
ورغم هذه الضغوط، أعادت المملكة تأكيد موقفها الثابت بأن أي خطوات نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل يجب أن تكون جزءا من خارطة طريق واضحة تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية.
ويؤكد هذا الموقف إصرار المملكة العربية السعودية على حماية مصالحها الوطنية والإقليمية، ويبرز قدرتها على قيادة عملية السلام من منظور متوازن ومسؤول.
وأشار جوناثان بانيكوف، ضابط المخابرات الأمريكية السابق لشؤون الشرق الأوسط، إلى أن المملكة العربية السعودية لن تمضي قدمًا في التطبيع حتى يوجد مسار ملموس لإقامة دولة فلسطينية. وأضاف أنه من المتوقع أن يستخدم ولي العهد نفوذه في واشنطن لتأمين دعم أمريكي واضح لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، وهي خطوة تعكس المهارة الدبلوماسية للمملكة في إدارة ديناميكيات القوة العالمية دون المساس بالمبادئ الوطنية.
كما أثبتت المملكة قدرتها على تحقيق التوازن بين الأمن القومي والاستقلال الاستراتيجي من خلال ضمان عدم تأثير المفاوضات مع واشنطن على استقلالية قراراتها الوطنية أو مصالحها الحيوية.
وأشار رئيس مركز الخليج للأبحاث عبد العزيز صقر إلى أن ربط التطبيع بإقامة دولة فلسطينية يعكس فهماً عميقاً للديناميكيات الإقليمية. وأضاف أن الرياض تهدف إلى معالجة متطلبات الأمن القومي بشكل منفصل عن التطبيع، مما يضمن مرونة استراتيجية طويلة المدى.
وفي الوقت نفسه، تسعى السعودية إلى تعزيز التعاون الدفاعي والتكنولوجي مع الولايات المتحدة، وهو ركيزة أساسية لزيارة ولي العهد المرتقبة.
وفي حين أن اتفاقية الدفاع المتوقعة قد لا ترقى إلى مستوى معاهدة كاملة، إلا أنها تمثل خطوة مهمة نحو تعزيز القدرات العسكرية للمملكة وتوسيع التعاون في مجال التكنولوجيا المتقدمة والدفاع.
ووصف ديفيد ماكوفسكي، الزميل البارز في معهد واشنطن، هذه الخطوة بأنها تضع الأساس لتعاون طويل الأمد، مما يمنح السعودية استقلالية أكبر في إدارة الأمن الإقليمي مع الحفاظ على موقفها الثابت بشأن القضية الفلسطينية.
كما يعكس موقف المملكة تجاه فلسطين وعيها بدورها القيادي ومسؤوليتها التاريخية.
وأكدت الوزيرة المفوضة في وزارة الخارجية السعودية منال رضوان أن أي تطبيع يجب أن يكون مشروطا بانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، وعودة السلطة الفلسطينية، ونشر قوة حماية دولية، وهي إجراءات ضرورية لضمان التكامل الإقليمي وحل الدولتين.
وهذا الموقف لا يدافع عن الحقوق الفلسطينية فحسب، بل يعزز أيضًا مصداقية المملكة العربية السعودية باعتبارها جهة فاعلة مركزية في تشكيل سياسات السلام الإقليمية.
وتأتي زيارة ولي العهد وسط تحولات إقليمية كبيرة، بما في ذلك الحرب الأخيرة في غزة، والضربات الإسرائيلية على البنية التحتية لحماس، وهجمات الجماعات المتحالفة مع إيران مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن.
وقد أدت هذه التطورات إلى تقليص التهديد الإيراني، مما سمح للسعودية بالتفاوض من موقع أكثر قوة واستقلالية، مما مكنها من إدارة الأمن القومي والسياسة الخارجية بما يتماشى مع أولوياتها الاستراتيجية.
ومن خلال هذا النهج، أظهرت المملكة قدرتها على تحقيق التوازن بين الضغط الدولي والمصالح الوطنية، ووضع نفسها في وضع يمكنها من تشكيل أي اتفاقيات مستقبلية ضمن إطار استراتيجي شامل ومعاير جيدًا.
ووفقاً لعدة مصادر دبلوماسية خليجية وغربية، تجري الرياض مفاوضات ببراعة عالية المستوى، وتربط التعاون الدفاعي بالتوافق بشأن القضايا السياسية الحساسة، بما في ذلك التطبيع وإقامة الدولة الفلسطينية، بطريقة تُظهر فهماً عميقاً للديناميكيات الإقليمية.
تُظهر هذه الاستراتيجية السعودية أيضًا قدرتها على دمج الأولويات المتعددة والتعاون الدفاعي والاستثمار التكنولوجي والمصالح السياسية، مع الحفاظ على التوازن الإقليمي والدولي. ومن خلال القيام بذلك، تضمن المملكة أن الخطوات المستقبلية محسوبة بعناية، وتحافظ على الاستقلال الوطني وتحقيق الأهداف الاستراتيجية دون الدخول في صراعات أو تقديم تنازلات يمكن أن تقوض مصالحها.
ومن منظور آخر، يوضح الموقف السعودي كيف أصبحت الرياض قوة استقرار رئيسية في المنطقة، وعامل توازن رئيسي، وقائدًا حقيقيًا في تشكيل سياسات السلام المستقبلية. ولم تتمكن المملكة من إدارة الأزمة الحالية فحسب، بل وضعت أيضًا شروطًا واضحة لضمان استدامة الاتفاقيات المستقبلية، بما في ذلك الارتقاء المحتمل باتفاقية الدفاع إلى معاهدة كاملة، مما يعكس التزامها بالتخطيط والاستمرارية على المدى الطويل.
وتؤكد هذه الظروف أن المملكة ليست طرفاً سلبياً خاضعاً للضغوط الخارجية، بل طرفاً استراتيجياً قادراً على تأكيد رؤيتها وشروطها. وهذا يعزز مكانتها كقوة مركزية وموثوقة في إدارة التوازنات الإقليمية وصياغة حلول السلام المستقبلية.
تاريخياً، لعبت المملكة العربية السعودية دوراً محورياً في دعم القضايا العربية والإسلامية منذ تأسيسها الحديث، وبرزت كلاعب رئيسي في الشؤون الإقليمية الكبرى، من دعم الوحدة العربية ومواجهة التحديات الإقليمية إلى حماية مصالح العالم الإسلامي.
ولم تقتصر المملكة على الدعم السياسي أو المالي؛ وساهمت في تشكيل مواقف استراتيجية ساهمت في تخفيف الأزمات وتعزيز السلام والمصالحة بين الدول العربية والإسلامية.
على سبيل المثال، لعبت الرياض دوراً حيوياً في الوساطة في النزاعات الخليجية، ودعمت الدول العربية خلال صراعات مثل تلك الموجودة في العراق والكويت، وعملت باستمرار على التوسط في الحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال دعمها الدائم لحل الدولتين.
وقد أثبتت هذه المواقف التاريخية قدرة السعودية على الموازنة بين الضغوط الدولية والتزاماتها الوطنية والإقليمية، بما يضمن ألا تؤدي قراراتها إلى زعزعة استقرار المنطقة أو المساس بالأمن العربي.
ومن خلال مواءمة القرارات الدبلوماسية مع المصالح الوطنية والمسؤوليات الإقليمية، طورت المملكة العربية السعودية نهجا متطورا في إدارة شؤون الدولة، مع إعطاء الأولوية للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع تقييم التداعيات الأوسع لأفعالها على المشهد الإقليمي.
لقد أظهرت المملكة أنها قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة المدى تحمي مصالحها الوطنية مع الحفاظ على الوحدة العربية والإسلامية، وتثبت نفسها كلاعب مؤثر في صنع السياسات الإقليمية وإدارة الأزمات.
يمنح هذا الدور التاريخي المملكة العربية السعودية مصداقية قوية في عمليات السلام المستقبلية، مما يؤكد أنها ليست مجرد رد فعل للضغوط الدولية، ولكنها قوة استراتيجية قادرة على حماية الحقوق العربية والإسلامية وقيادة المبادرات الدبلوماسية لضمان الاستقرار الإقليمي.
وتنبع هذه المصداقية من سجل طويل من التدخلات المدروسة، من الوساطة السياسية إلى الدعم الاقتصادي والتنمية، والتي ساهمت جميعها في تعزيز الاستقرار والحد من حدة الصراع في معظم أنحاء الشرق الأوسط.