وفي قرن يتسم بتسارع وتيرة تغير المناخ، برزت المياه باعتبارها واحدة من التحديات الاستراتيجية الأكثر حسما في تشكيل مستقبل الأمم والمجتمعات.
لقد أصبح هذا المورد الحيوي، وإن كان نادرا على نحو متزايد، مرآة تعكس التوترات العالمية والأشكال الجديدة من التضامن التي تعيد تشكيل توازن القوى. ولم يعد التحدي يتمثل في “إدارة” المياه فحسب، بل في إعادة اختراع الطرق التي ننتجها ونوزعها ونحافظ عليها، وتأسيس نماذج حوكمة جديدة تضمن استدامتها للأجيال القادمة.
لقد تعطلت النظم الهيدرولوجية في جميع أنحاء العالم بوتيرة غير مسبوقة: الجفاف لفترات طويلة، والفيضانات المدمرة، والإجهاد المائي على نطاق واسع، وتملح طبقات المياه الجوفية الساحلية، وانخفاض مثير للقلق في احتياطيات المياه الجوفية.
وفي العديد من المناطق، لم يعد السؤال هو ما إذا كانت الأزمة سوف تحدث، بل متى وبأي درجة من الخطورة. ولذلك أصبح التكيف ضرورة حتمية، وليس خيارا، ويتطلب تحولا مفاهيميا وتكنولوجيا عبر الحكومات والمؤسسات والجهات الاقتصادية الفاعلة.
وبناءً على ذلك، انتقل الابتكار إلى مركز الاستجابة العالمية. إن تقنيات تحلية المياه منخفضة الكربون، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المتقدمة وأنظمة إعادة شحن طبقات المياه الجوفية، والزراعة الدقيقة، وأجهزة الاستشعار الذكية، ورسم الخرائط الهيدروجيولوجية وأدوات التحسين التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، تعمل بالفعل على إعادة تشكيل علاقتنا بالمياه. ومع ذلك، فإن الابتكار لا يقتصر على التكنولوجيا فحسب: فهو يشمل أيضا الإدارة والتخطيط الإقليمي والنماذج الاقتصادية والأدوات التنظيمية.
وفي إطار هذا المشهد العالمي المعقد، ميز المغرب نفسه كواحد من أكثر الجهات الفاعلة ديناميكية وتطلعا إلى المستقبل في هذا المجال. إن استضافة المغرب للمؤتمر العالمي التاسع عشر للمياه، المقرر في الفترة من 1 إلى 5 ديسمبر بمراكش، هو أكثر بكثير من مجرد حدث دولي، فهو بيان واضح لالتزام المغرب بالعمل إلى جانب المجتمع العالمي لبناء “مستقبل مرن ومستدام” لهذا المورد الحيوي، كما أكد الكاتب العام لوزارة التجهيز والمياه خلال مؤتمر صحفي بالرباط.
ويتوج هذا الدور الاستضافة سنوات من السياسات المائية الطموحة والاستباقية. أطلق المغرب أحد أكبر برامج تحلية المياه في المنطقة، مع محطتين رئيسيتين في الدار البيضاء وأغادير تجمع بين تحلية المياه والطاقة المتجددة، وهو نموذج يتماشى مع الجهود العالمية للحد من انبعاثات الكربون. كما طورت البلاد سياسة رائدة لإعادة استخدام مياه الصرف الصحي، وخاصة للري الحضري والمساحات الخضراء، وشرعت في مشروع نقل كبير بين الأحواض يربط بين المناطق الشمالية والوسطى لضمان توزيع أكثر عدالة وكفاءة للموارد المائية.
هذه المبادرات ليست مشاريع فنية معزولة؛ فهي تجسيد لرؤية استراتيجية تضع الأمن المائي في قلب السيادة الوطنية والتنمية المستدامة. ويتوقع هذا النهج الضغوط المناخية والاقتصادية والاجتماعية المستقبلية، ويضع المغرب في مصاف البلدان الأكثر استعدادا لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
ومع ذلك، لا تستطيع أي دولة أن تواجه تحدي المياه بمفردها. إن تعقيد الأزمة يتطلب حلولاً متكاملة وطويلة الأجل توحد البحث العلمي والسياسة العامة وخبرات القطاع الخاص والمشاركة المجتمعية. ويدعو إلى تحول ثقافي نحو الكفاءة وإعادة الاستخدام وحماية مستجمعات المياه واستعادة النظم البيئية. ويتطلب الأمر أيضًا تجديد الشراكات العالمية لتعزيز التضامن في مجال المياه، وخاصة مع الدول الأكثر عرضة للمخاطر المناخية.
فالمياه، باعتبارها الأساس الأساسي للحياة، تجبرنا على إعادة التفكير في علاقتنا مع الطبيعة وإعادة تصميم سياساتنا وتقنياتنا وسلوكنا. الابتكار يوفر الأدوات؛ التكيف يحدد البوصلة. وهي تحدد معًا مستقبل الأمن المائي في القرن الحادي والعشرين. ومعها آفاق الاستقرار والازدهار والتنمية المستدامة للجميع.
وبهذا المعنى، فإن المؤتمر العالمي للمياه في مراكش ليس مجرد منتدى عالمي، بل هو فرصة لتسليط الضوء على نموذج وطني طموح وملهم في نفس الوقت. إن النهج المتكامل الذي يتبعه المغرب، والمتجذر في التخطيط طويل الأجل والابتكار والحوكمة السليمة، يقدم دروسا قيمة لعالم يبحث عن مسارات مرنة نحو مستقبل مائي مستدام.