غزة
ومع مقتل 70 ألف شخص، وعدد لا يحصى من الجرحى، ومئات الآلاف من المشردين، وتدمير أحياء بأكملها، فإن مهمة إعادة بناء غزة تكاد تكون بعيدة عن الفهم.
ولكن في عدد قليل من المواقع التي تعرضت فيها المعالم التاريخية الأكثر قيمة في الجيب لأضرار بالغة، ينشغل العمال بالفعل بالمجارف، في محاولة لاستخراج بقايا الماضي القليلة الباقية.
وتشمل هذه المواقع أهم موقع ثقافي في غزة، المسجد العمري الكبير في البلدة القديمة في غزة، والذي ضربته القوات الإسرائيلية خلال الحرب لتدمير ما قالت إنه نفق تحت أراضيها يستخدمه المقاتلون. ويقول الفلسطينيون إنه لا يوجد ما يشير إلى وجود مثل هذا النفق هناك، ويلومون إسرائيل على تدمير التراث الديني والثقافي للقطاع.
وقال حمودة الدهدار، المهندس المعماري وخبير التراث في مركز الحفاظ على التراث الثقافي، ومقره مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، ويعمل الآن داخل غزة لمحاولة إنقاذ المواقع التي دمرت في الحرب: “إذا كان الاحتلال (إسرائيل) يعتقد أنه من خلال تدمير هذه المباني يمكنه محو تاريخ هذا الشعب، فهو مخطئ”.
وقال لرويترز في غزة “هذه المباني تمثل الذاكرة الجماعية لأمة قديمة ويجب الحفاظ عليها وعلينا أن نتحد في جهودنا لحمايتها”.
ولم يستجب الجيش الإسرائيلي لطلب التعليق الجديد على تدمير المواقع الثقافية الفلسطينية في غزة.
وفي جيب حيث معظم السكان لاجئون من المدن والقرى في ما يعرف الآن بإسرائيل، وتم بناء معظم المناطق على عجل في العقود الأخيرة لإيواءهم، كان المسجد العمري بمثابة الرابط الرئيسي لسكان غزة بتراثهم الثقافي والإرث التاريخي المعماري الغني للشرق الأوسط الكبير.
وكان الموقع، الذي تقول التقاليد المحلية إنه المكان الذي هدم فيه شمشون المعبد على خاطفيه الفلسطينيين، كنيسة بيزنطية قبل أن ينقل الخليفة عمر في القرن السابع الإسلام إلى البحر الأبيض المتوسط ويعيد تكريسه كمسجد.
وفي القرون التي تلت ذلك، تم تزيينه وترميمه مرات لا تحصى على يد المماليك والصليبيين والعثمانيين، وقد اشتهر طوال العصور الوسطى باعتباره الأعجوبة المعمارية في المنطقة.
وكانت مئذنته المعلم الرئيسي لأفق غزة. وكان المصلون يكتظون بالكنيسة ذات الأسقف المقببة والأرضيات الزجاجية الباردة، التي تمتد بعد الصلاة عبر الواجهة الفخمة والفناء الحجري المقوس وبوابات المجمع إلى شوارع السوق المحيطة بالمدينة القديمة.
وكان سوق القيصرية للذهب القريب يعج بالمحلات التجارية التي اشتهر أصحابها وجيرانها بسرد الأساطير الخالدة عن مجوهرات زفاف العاشقين المنكوبين والحماات الغيورة. لم يتبق سوى القليل.
كما يقع قصر الباشا تحت الأنقاض، وهو معلم يعود تاريخه جزئيًا إلى القرن الثالث عشر، ويضم متحفًا اختفت كنوزه الآن.
وقال دهدار: “عندما نتحدث عن التراث والثقافة، فإننا لا نتحدث فقط عن مبنى قديم أو حجارة قديمة. كل حجر يحكي قصة”.
وقال جهاد ياسين، مساعد نائب الوزير في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية ومقرها الضفة الغربية، إن المسؤولين الفلسطينيين واليونسكو يعدون خطة إنعاش من ثلاث مراحل بتكلفة أولية تبلغ 133 مليون دولار للمواقع التاريخية.
وستكون الأولوية الأولى هي التدخل السريع لدعم الهياكل التي يمكن أن تنهار دون دعم. لكن هناك نقص في الأسمنت الأبيض والجبس. وأضاف أن الموارد في غزة محدودة، كما ارتفعت أسعار مواد الحفر والترميم بشكل كبير.
وفي غزة، لا يزال فقدان المعالم الثقافية يسبب ألمًا خاصًا، حتى بين العائلات التي فقدت أحباءها ومنازلها وسبل عيشها.
وقالت منذر أبو عاصي إنها اضطرت إلى مواساة ابنتها كنزي بعد أن سمعت أن المسجد العمري الكبير تعرض لأضرار.
“إنها حزينة حقاً. عندما سمعنا أن المسجد قد تعرض للقصف، تفاجأنا، لماذا؟” قال أبو عاصي.
وأضاف “وعندما ضربوا أيضا قصر الباشا تأكدنا أن هذا الاحتلال (إسرائيل) يريد طمس الهوية الفلسطينية وطمس أي أثر فلسطيني”.