لندن
وفي قاعة النهر بمجلس اللوردات في لندن، حيث اجتمع برلمانيون بريطانيون وشخصيات دينية وثقافية ودبلوماسية، ألقى الشيخ المحفوظ بن بيه، الأمين العام لمنتدى أبوظبي للسلام، كلمة نقلت أكثر من مجرد الثناء على حدث إنساني. وقدم رؤية تتجاوز حدود الإمارات لتصل إلى العالم أجمع: رؤية تقوم على المواطنة العالمية الشاملة المتضمنة قيم التضحية والعطاء، وتتضمن رسالة سلام تسعى إلى نبذ الكراهية والتطرف.
ولم يكن هذا الحدث، الذي أقيم تحت عنوان “الإيمان العظيم: حكايات التضحية والعطاء”، مجرد مناسبة لتكريم الجنود المسلمين الذين شاركوا في الحربين العالميتين، بل كان فرصة لإلقاء نظرة جديدة على التاريخ من منظور إنساني. وخدم أكثر من 2.5 مليون جندي مسلم في مختلف الجيوش دفاعًا عن قيم الكرامة الإنسانية. إن عددهم هو تذكير بأن التضحية ليست حكرا على أي أمة أو دين واحد، بل هي مسعى إنساني مشترك. وأكد الشيخ المحفوظ بن بيه أن التذكر الحقيقي ليس مجرد استرجاع الماضي، بل هو تجديد العهد مع المستقبل، ودعوة لمواجهة الكراهية والتطرف، وتعزيز ثقافة الخير العام والسلام الدائم.
وفي هذا السياق استذكر المحفوظ بن بيه كلمات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في يوم العلم عندما قال إن أبناء الإمارات جيلا بعد جيل يجمعهم حب وطنهم وتفانيهم في خدمته وإيمانهم بالمسؤولية المشتركة في إبقاء علمها يرفرف عاليا بكل فخر وإصرار. وقد لخص البيان جوهر المواطنة الشاملة: أن الوطن هو الرابطة التي توحد الأجيال، وأن الخدمة المشتركة هي القيمة التي تعطي معنى للهوية. وهذه رؤية لا تقتصر على الإمارات فحسب، بل يمكن أن تكون بمثابة نموذج عالمي في عصر الانقسام المتزايد وضيق الهويات.
المواطنة الشاملة، كما أوضح الشيخ عبد الله بن بيه، تقوم على الهوية الحسية وروابط المسؤولية المتبادلة بين الأفراد ووطنهم. وهي امتداد لمفاهيم أصيلة في التراث الإسلامي، كميثاق المدينة المنورة الذي أرسى أسس التعايش بين المجتمعات المختلفة، وإعلان أبوظبي للمواطنة الشاملة الذي يؤكد قيم العدالة وحماية الحقوق. وتجد هذه المرجعيات التاريخية والدينية صدى عملياً اليوم في المبادرات الرائدة التي أطلقتها دولة الإمارات لتعزيز السلام والوئام بين الشعوب، سواء من خلال منتديات الحوار أو المشاريع التنموية المشتركة.
وكان الملفت في خطاب الشيخ المحفوظ هو الربط بين الماضي والحاضر، بين تضحيات الجنود المسلمين في الحربين العالميتين ومساهمات المسلمين البريطانيين اليوم في مجالات الصحة والتعليم والخدمة العامة والفنون والعلوم. والرسالة هنا واضحة: الإيمان والعطاء ليسا مجرد ذكريات، بل قيما حية تتجدد في كل جيل وتجد تعبيرها في خدمة الإنسانية والحفاظ على الحياة. وبهذا المعنى يصبح التذكر ممارسة موجهة نحو المستقبل بقدر ما يكون مسعى موجها نحو الماضي، ويصبح التاريخ من الآن فصاعدا مصدرا للإلهام، وليس عبئا.
ومن هذا المنظور، يمكن القول إن دولة الإمارات العربية المتحدة تحاول أن تقدم للعالم رواية جديدة عن الإسلام والهوية العربية والمواطنة – رواية تقوم على النظرة الإيجابية والتضحية المشتركة والأمل المشترك. وفي وقت يتصاعد فيه خطاب الكراهية والانقسام، تدعو هذه الرواية إلى رؤية للإسلام ليس دين العزلة، بل دين العطاء. ويؤكد أن المواطنة ليست مجرد هوية قانونية، بل هي عقد أخلاقي بين الأفراد ووطنهم؛ وأن السلام ليس شعارًا دبلوماسيًا، بل ممارسة يومية في خدمة الصالح العام.
وكان إحياء الذكرى في لندن بمثابة تذكير للعالم بأن الجنود المسلمين الذين قاتلوا في الحربين العالميتين لم يفعلوا ذلك دفاعاً عن مفهوم ضيق للقومية، بل دفاعاً عن فهم أعلى للقيم الإنسانية. واليوم، عندما يتحدث الشيخ المحفوظ بن بيه عن مواجهة التطرف والكراهية، فهو في الحقيقة يقول إن المعركة لم تنته، وأن التضحية والعطاء لا يزال مطلوبا، ولكن الأمر كذلك هذه المرة في ميادين الفكر والثقافة والسياسة. إنه يجسد دعوة للتذكر كوسيلة لتجديد العهد مع المستقبل، وليس لمجرد الخوض في الماضي.
وقصة الإمارات كما وصفها الشيخ المحفوظ هي حكاية تضحية مشتركة وخدمة مشتركة وأمل مشترك يوحد الشعوب ويلهمهم للسير على دروب الإنسانية والسلام. هذه القصة ليست فريدة من نوعها في دولة الإمارات العربية المتحدة. إنها دولة يمكن أن تكون واحدة من كل أمة وكل مجتمع إذا اختارت البناء على قيم المواطنة العالمية الشاملة والتعايش الإنساني. وفي نهاية المطاف، فإن ما يقدمه الشيخ محمد بن زايد في رؤيته للوحدة الوطنية وروح الخدمة المشتركة هو أكثر من مجرد سياسة داخلية؛ إنه مشروع عالمي لترسيخ ثقافة السلام.
ويختتم هذا المنظور بنقطة حاسمة: إن العالم اليوم يحتاج إلى نماذج إيجابية، وقصص ملهمة لمواجهة الكراهية والانقسام. وتسعى دولة الإمارات من خلال منتدى أبوظبي للسلام ومبادراته العديدة إلى أن تكون هذا النموذج. وقد قدم الشيخ المحفوظ بن بيه، في تصريحاته في لندن، إطارا فكريا لرسالة مفادها أن التذكر الحقيقي هو تجديد العهد مع المستقبل، وأن المواطنة العالمية الشاملة هي الطريق إلى السلام الدائم. ومن هنا وجه دعوة مفتوحة للعالم للتأمل والتذكر والسير في طريق الإنسانية بدلاً من طريق الصراع.