وفي بغداد، لا يتحرك المذيع من كرسيه دون موافقة الحزب. الكاميرا لا تتحرك إلا إذا أشار رجل ميليشيا من الخلف. تم تنظيم كل شيء. وحتى نشرات الأخبار تُقرأ وكأنها نعي مكتوبة بلغة السلطة.
هذه ليست مبالغة أدبية. إنه الواقع اليومي للإعلام العراقي، الذي تهزه الفضيحة تلو الفضيحة، بما في ذلك ما كشفه المدون علي فاضل عن سوء سلوك مسؤول إعلامي حكومي كبير. إن ما يسميه السياسيون “قنوات” لا يعدو أن يكون مجرد “محلات إعلامية”، ويشعر الصحفيون المستقلون بخيبة أمل بسببها. ولا حدود للابتذال ما دام الممول سياسيا أو رجل أعمال يسعى للحصول على مقعد برلماني.
ولنتأمل هنا التدقيق المكثف الذي واجهته هيئة الإذاعة البريطانية في أعقاب الخطأ التحريري الكبير الذي ارتكبته في خطاب ألقاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي دفع هيئة البث إلى إصدار اعتذار علني. ولكن متى تم محاسبة أي قناة فضائية عراقية أو عربية على الأخطاء المتعمدة الهجومية التي ترتكبها يومياً؟
في النظام العراقي المزيف، يتم شراء الصحافة وكتابتها وبثها. الحقيقة لا تنشر، بل ما تريد أن يقال المليشيات والأحزاب السياسية والسلطات الطائفية ورجال الأعمال ولصوص الدولة.
كتبت مارغريت سوليفان في صحيفة الغارديان: “عندما تنهار الصحافة تحت وطأة المال، تصبح الحقيقة مجرد خيار أخلاقي يتجاوزه الجميع”. إن الصحافة الحرة ليست مجرد القدرة على النشر؛ إنها أيضًا الشجاعة للتحدث علنًا ضد الحكومات.
وفي بغداد، هذا الامتياز غير موجود. يتم شراء الولاءات، وتلفيق التقارير، وترهيب الصحفيين، إما من خلال تهديد سبل عيشهم أو بالرصاص الطائش. وكما لاحظ دان بيري، المحرر السابق لوكالة أسوشيتد برس، فقد تحول الصحفيون “من مراقبين إلى موظفين حكوميين”.
فقط في العراق ستجد استديوهات تلفزيونية كاملة تعمل من داخل مقرات الميليشيات. ويتم إعداد الأخبار هناك وإيصالها للمشاهدين وكأنها بيان عسكري. ومن يرفض هذا المسرح ينتهي به الأمر في الشوارع أو في القبر.
فالصحافة الآن تخضع للسلطة أكثر من الحقيقة. وهذا ليس تعميما، بل نتيجة لمئات حالات الرقابة والحظر والفصل وأحيانا القتل. نادراً ما توفر القصص الرسمية أكثر من نقطة انطلاق لتقارير أعمق قد تكشف الحقيقة.
لكن كل شيء في الإعلام العراقي يخضع لقواعد المحسوبية السياسية والطائفية والمالية. من يدفع يتحكم. والنتيجة هي مشهد إعلامي هجين: منافذ إعلامية ترفع راية الحرية، ولكنها في الواقع لا تفعل سوى محاكاة الببغاء للحكومة وتملق الميليشيات.
كتب ديفيد إغناتيوس في صحيفة واشنطن بوست: “إن ما يخيف السلطة ليس الرأي المخالف، بل الصحفي المستقل”. ولهذا السبب تُمنح القنوات العراقية ألقاباً لا معنى لها، وتجرد المهنة من غرضها.
في الغرب، هناك نظام بيئي يدعم الصحافة. لكن في الشرق هناك نظام سياسي يقوضه يوميا. وفي بريطانيا، يُنظر إلى الصحفيين على أنهم صوت المجتمع. أما في العراق فهم مجرد موظفين لدى من يدفع رواتبهم.
ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام الغربية لم تكن بمنأى عن السخافات التي هزت جوهرها في العقود الأخيرة، وتركتها في حيرة وجرح. اسأل أي قارئ للصحف الأمريكية أو البريطانية اليوم عما يريده، وسوف يجيب على الفور: الحقيقة. الملايين حول العالم يريدون استعادتها.
ومع ذلك، لا يستطيع الصحفيون ببساطة محو السياسيين لأنهم لا يتناسبون مع مزاج مؤسساتنا أو حكوماتنا. ومن الظلم، ويتنافى مع الجوهر التاريخي للصحافة، أن نحول الإعلام إلى ساحة للرغبات الأنانية.
لقد أصبح الخوف والغضب المشاعر السياسية السائدة في الديمقراطيات الكبرى، وقد لعبت وسائل الإعلام دوراً في هذا التصعيد الخطير. لقد أصبحت هذه المشاعر أكثر بدائية وأقل إقناعا، الأمر الذي يهدد فكرة الديمقراطية التي من المفترض أن تخدمها وسائل الإعلام.
وكما يحذر مارتن وولف من صحيفة فايننشال تايمز، فمن الصعب احتواء مثل هذه المشاعر الفجة. إن الديمقراطية في جوهرها هي شكل متحضر من أشكال الحرب الأهلية، وهي صراع على السلطة تحتويه المؤسسات والاتفاقيات. “كلما كانت المشاعر أقوى وكانت الطموحات مقيدة أكثر، كلما زاد احتمال انهيار الديمقراطية وتحولها إلى الاستبداد”. يقول وولف: “إن الديماغوجيين هم نقطة الضعف القاتلة في الديمقراطية”.
وهكذا، أصبحت المعركة من أجل الحقيقة صراعاً ضد الانقسام السام، مما أدى إلى تغيير الطريقة التي ينظر بها الناس إلى وسائل الإعلام. إنها حرب للحفاظ على المثل العليا للصحافة، والتي لا يمكن فصلها عن النضال من أجل الديمقراطية الحقيقية.
عندما يكسر تأثير المال ظهر الصحافة، تضيع قيمتها وتصبح شيئا آخر تماما، أقرب إلى الدعاية أو الترفيه أو الولاء الصامت.
ويبقى السؤال: من يملك الإعلام العراقي؟ الجواب بسيط: أولئك الذين يملكون السلطة والمال. ولهذا السبب يظل الإعلام العراقي انعكاسا للسلطة وليس الحقيقة.