الخرطوم
بعد مرور أكثر من عامين على اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يبدو أن البلاد دخلت مرحلة الانهيار البطيء، إذ تتلاشى ملامح الدولة ويتآكل النسيج الاجتماعي، وتتقاطع الأجندات الإقليمية والدولية على أرضها، مما يجعل السلام هدفا بعيد المنال.
الصراع، الذي بدأ في أبريل 2023 كصراع على السلطة بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تحول بمرور الوقت إلى حرب متعددة الطبقات، سياسية واقتصادية وعرقية وحتى أيديولوجية، مما دفع السودان إلى حافة التفكك الكامل.
وعلى الرغم من موجة المبادرات، لا توجد إشارة جدية على الأرض إلى انتهاء القتال. ولا تزال العاصمة الخرطوم في حالة خراب إلى حد كبير، وأصبحت مدن بأكملها مثل ود مدني والجنينة ونيالا ساحات قتال مفتوحة.
ولا يسيطر أي من الطرفين بشكل كامل على المنطقة، بينما يعاني المدنيون من انعدام الأمن ونقص الغذاء والدواء وانهيار شبه كامل للخدمات. وأصبحت المستشفيات التي لم يتم تدميرها ملاجئ للنازحين، وأصبحت المياه النظيفة رفاهية نادرة في معظم المناطق. ومع استمرار الحصار على المدن الكبرى، انتشرت الأمراض والأوبئة، خاصة الكوليرا والملاريا وسوء التغذية بين الأطفال.
وتواصل الأطراف المتحاربة العمل وفق منطق “كل شيء أو لا شيء”، حيث يرفض كل منها التراجع خوفاً من أن يُنظر إلى ذلك على أنه ضعف أو اعتراف بالهزيمة. ويرى الجيش نفسه حارسا للدولة ومؤسساتها، في حين تصر قوات الدعم السريع على أنها تقاتل ضد “الدولة العميقة” والمركزية التاريخية التي طالما همشت الأطراف.
ويقول آلان بوسويل، مدير مشروع القرن الأفريقي في مجموعة الأزمات الدولية، إن هذه الازدواجية تجعل أي حوار سياسي مستحيلاً فعلياً، لأن جذور الصراع أعمق من مجرد التنافس على السلطة؛ إنها أزمة هوية وطنية مستمرة منذ عقود بين مركز يعتبر نفسه تجسيدا للدولة وبين مناطق مهمشة تشعر بالإقصاء.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، لم تكن هناك رؤية موحدة. لقد وصل كل وسيط إلى الطاولة بمشروع مختلف، وغالبًا ما يكون مدفوعًا بحساباته الإستراتيجية الخاصة. وفي جدة، حاولت السعودية والولايات المتحدة إطلاق مسار تفاوضي يهدف إلى إنهاء القتال من خلال وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية. ومع ذلك، فإن الخلافات بين الأطراف المتحاربة وغياب آلية مراقبة فعالة يعني أن كل اتفاق كان يولد ميتاً.
وكان النهج الذي تبنته مصر يرتكز على الحفاظ على وحدة الجيش ومؤسسات الدولة، خوفاً من أن يؤدي تفكك السودان إلى إطلاق العنان للفوضى على طول حدودها الجنوبية. وعلى النقيض من ذلك، لعبت إثيوبيا دورًا مزدوجًا بين الوساطة وحماية مصالحها الخاصة في منطقة الفشقة الحدودية وسد النهضة الإثيوبي الكبير.
وهذا التعدد في التوجهات جعل “الرباعية”، التي تضم الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، غير قادرة على توحيد جهودها. وفي حين تعتمد واشنطن على الضغوط السياسية والدبلوماسية، فإن بعض العواصم العربية تفضل اتباع نهج أكثر معاملات، والعمل من خلال وكلاء محليين وتأمين النفوذ على مناطق محددة.
ونتيجة لذلك، لم تعد جهود الوساطة المتكررة أكثر من مجرد إدارة الأزمات وليس حلها، مما أعطى الجانبين الوقت لإعادة تجميع صفوفهما وتشكيل تحالفات جديدة. وفي غياب التقدم السياسي، تتدهور الأوضاع الإنسانية بمعدل صادم. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن أكثر من 25 مليون سوداني بحاجة ماسة للمساعدات، فيما تجاوز عدد النازحين داخليا 11 مليونا، في أكبر أزمة نزوح يشهدها العالم اليوم.
لقد تحولت المدن التي كانت تعج بالحياة ذات يوم إلى أنقاض، وأصبحت الأراضي الزراعية التي كانت تغذي الملايين في السابق مناطق خطرة وموبوءة بالألغام. ومع تعليق المساعدات الدولية بسبب انعدام الأمن، فر العديد من السودانيين نحو تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا، مما فرض المزيد من الضغوط على البلدان المجاورة المثقلة بالفعل بأزماتها الاقتصادية والأمنية.
ويحذر مراقبون من أنه إذا استمرت الحرب، فإن السودان يخاطر بالتحول إلى ساحة مفتوحة للميليشيات وشبكات التهريب العابرة للحدود، كما حدث من قبل في ليبيا والصومال.
ومع عدم وجود سلطة مركزية، تعمل الجماعات المسلحة المحلية والقبلية على توسيع سيطرتها على المناطق الغنية بالذهب وطرق التجارة، وتحول الموارد الطبيعية إلى مصادر لتمويل الحرب. ويقول اقتصاديون إن تجارة الذهب غير المشروعة وحدها تمول الآن جزءًا كبيرًا من الصراع، حيث يتم تهريب الكميات عبر الحدود إلى الأسواق الأجنبية وتستخدم العائدات لشراء الأسلحة ومواصلة العمليات العسكرية.
وتشير التقارير الميدانية إلى أن دارفور، التي كانت مسرحاً لبعض أسوأ أعمال العنف في الحرب، أصبحت الآن منقسمة فعلياً بين مجموعات قبلية وميليشيات ذات ولاءات متغيرة. وقد تطور القتال هناك إلى ما هو أبعد من المواجهة بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى اشتباكات عرقية وحشية، خاصة بين قبائل الزغاوة والمساليت والقبائل العربية.
ومثل هذه الانقسامات تجعل أي حل سياسي شامل شبه مستحيل من دون عملية واسعة النطاق للمصالحة المجتمعية، وهي عملية قد تستغرق سنوات من إعادة بناء الثقة.
ويقول المحللون إن المجتمع الدولي قد تبنى نهجا رد الفعل بدلا من النهج الاستباقي تجاه أزمة السودان. وتنظر القوى الكبرى إلى السودان من خلال عدسة أمنية في الأساس، باعتباره مصدراً للهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر، في غياب إرادة حقيقية لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع. وحتى الأمم المتحدة أصبحت غير فعالة إلى حد كبير منذ طرد بعثتها السياسية من الخرطوم، مما ترك لها الحد الأدنى من التأثير.
اقتصادياً، السودان في حالة انهيار تام. وفقدت العملة أكثر من 90% من قيمتها، وارتفع التضخم إلى أكثر من 400%، وأصبحت السلع الأساسية مثل القمح والوقود نادرة. وقد تعرض القطاع الزراعي، وهو شريان الحياة للبلاد، لأضرار بالغة، مما يثير شبح المجاعة الجماعية.
وبينما يكافح البنك المركزي للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار النقدي، انخفضت الإيرادات العامة بسبب توقف الصادرات، وخاصة الذهب والصمغ والماشية.
ومع استمرار الحرب، تتزايد المخاوف من التقسيم الفعلي. وقد بدأ شرق السودان يظهر ميولاً انفصالية، بينما يخضع الغرب فعلياً لحكم الجماعات المحلية. وتسيطر قوات الدعم السريع على مساحات واسعة من دارفور وكردفان، في حين يسيطر الجيش على الشمال والشرق، وهو مسار يعكس بشكل متزايد النموذج الليبي المنقسم، مع سلطتين متنافستين ولا يمارس أي طرف السيادة على الإقليم بأكمله.
وتهدد هذه الفوضى أيضًا طرق التجارة الإقليمية. وأصبحت موانئ السودان على البحر الأحمر ساحات للتنافس بين القوى العربية والإفريقية، في حين فقدت مصر الكثير من تجارتها البرية عبر حدودها الجنوبية. وتشعر جيبوتي وإريتريا أيضاً بالقلق إزاء تدفق الأسلحة والمقاتلين.
وبالتالي فإن أزمة السودان لم تعد شأناً داخلياً، بل أصبحت قضية أمنية إقليمية تهدد استقرار منطقة القرن الأفريقي برمتها. ووسط هذا المشهد الكئيب، تستمر المبادرات الدبلوماسية دون نتائج ملموسة، وتعقد الاجتماعات، وتصدر البيانات، وتتكرر النداءات المعتادة من أجل “ضبط النفس” و”الحل السلمي”، حتى مع استمرار قذائف المدفعية في قصف المدن والقرى.
ولا يبدو أن أي طرف قادر على فرض وقف دائم لإطلاق النار أو ضمان ممرات إنسانية آمنة. وحتى عندما يتم الإعلان عن هدنة مؤقتة، فإنها تنتهك بسرعة، وكأن الفصائل المتحاربة تستمد الشرعية من استمرار الحرب وليس نهايتها.
لا يمكن قراءة هذا المأزق الذي طال أمده إلا على أنه فشل جماعي للوسطاء والجهات الفاعلة الإقليمية والقوى الدولية على حد سواء. والعالم يراقب، والمنطقة تظل مشلولة بسبب تناقضاتها، والقادة السودانيون غير قادرين على تصور مستقبل ما بعد الحرب.
ومع تعمق الدمار، يتضاءل الأمل في ظهور صوت عقلاني من تحت الأنقاض يعترف بأنه لن يكون هناك منتصر في هذه الحرب، وأنه ما لم يتم إنقاذ السودان الآن، فقد يختفي من خريطة الدول الموحدة لعقود قادمة.