ومع الحروب التي اندلعت في شرقها وشمالها، اكتسبت اليونان أهمية جيواستراتيجية جديدة في شرق البحر الأبيض المتوسط. لقد أصبحت البلاد نقطة انطلاق للتحالف الغربي، ولكنها أصبحت أيضًا، على نفس القدر من الأهمية، شريكًا موثوقًا به في المنطقة. ويشكل هذا الوضع الجديد قصة عودة رائعة لبلد كان نقطة الصفر في الأزمة المالية الأوروبية المعقدة قبل عقد من الزمن فقط.
أولاً، مع الغزو الروسي لأوكرانيا، والآن مع الحرب بين إسرائيل وغزة، أصبحت اليونان بمثابة قناة لنقل الرجال والعتاد للولايات المتحدة وحلفاء الناتو الآخرين. لقد أصبحت حلقة وصل حيوية في سلاسل إمدادات الطاقة في المنطقة. ويُنظر إليها بشكل متزايد على أنها وجهة ملاذ آمن.
كما يسلط الدور الناشئ الذي تلعبه اليونان الضوء على البنية الأمنية المتطورة في شرق البحر الأبيض المتوسط والتي حدثت بهدوء على مدى العقد الماضي.
منذ عام 2010 على الأقل، طورت أثينا علاقات دفاعية وتجارية متعددة ومتداخلة مع قبرص وإسرائيل ومصر، وكذلك مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. فقد عملت على إقامة تعاون أوثق مع الولايات المتحدة، التي كانت داعمة لهذا التحالف الجديد في شرق البحر الأبيض المتوسط، مع تدهور علاقات أميركا مع تركيا، حليفتها السابقة في المنطقة.
وفي هذه الأيام، أصبح ميناء ألكسندروبوليس في شمال اليونان مركزاً لتزويد بلغاريا ورومانيا العضوين في حلف شمال الأطلسي، في حين تدعم جزيرة كريت العمليات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن ناحية أخرى، تمضي اليونان في تنفيذ برنامج لتحديث الدفاع بقيمة 13 مليار دولار، كما عملت على تعميق تعاونها العسكري مع كل من شركائها الإقليميين من خلال التدريبات المشتركة والتبادلات الثنائية.
ويرتكز هذا التحالف الجديد على العلاقات التجارية والاستثمارية المتنامية، وخاصة في قطاع الطاقة. قبل فترة طويلة من الصراعات الأخيرة، وجدت اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر مصلحة مشتركة في تطوير موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وكان اكتشاف احتياطيات الغاز الطبيعي الوفيرة، أولا في إسرائيل في عام 2009 ثم في قبرص ومصر، إيذانا ببدء حقبة جديدة من التعاون بين الدول الأربع. وأدى ذلك إلى اقتراح إنشاء خط أنابيب شرق البحر المتوسط لنقل الغاز عبر اليونان إلى أوروبا، ومن ثم إنشاء منتدى غاز شرق البحر المتوسط.
وكانت الولايات المتحدة داعمة بشكل أساسي لتحالف الطاقة الرباعي هذا. وقد سحبت منذ ذلك الحين دعمها لخط أنابيب شرق البحر الأبيض المتوسط، الذي يواجه، على أية حال، عقبات فنية ومالية، لكنه لا يزال يدعم مشروعين متعاقبين، وتحديداً كابلي نقل عالي الجهد تحت الماء لربط شبكة الكهرباء اليونانية بقبرص وإسرائيل. ومصر. وفي كلتا الحالتين، ستكون اليونان بمثابة نقطة عبور لجلب الغاز الطبيعي أو الكهرباء من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا.
وستعمل هذه المشاريع على استكمال دور اليونان الناشئ كمركز للطاقة في جنوب شرق أوروبا. ويعمل خطا أنابيب جديدان للغاز الطبيعي ومنشأتان جديدتان للغاز الطبيعي المسال على تزويد جيران البلاد في الشمال بمصادر جديدة للإمدادات. وبدأت اليونان أيضًا في تصدير فائض الطاقة إلى الدول المجاورة بما في ذلك بلغاريا وألبانيا ومقدونيا الشمالية من إنتاجها السريع النمو من الطاقة المتجددة.
وإدراكًا للآفاق، وقعت دولة الإمارات عددًا من الاتفاقيات الثنائية مع اليونان في عام 2022 لتطوير مشاريع الغاز الطبيعي المسال والطاقة المتجددة، وأعلن البلدان عن مشروع تجريبي صغير في قمة المناخ COP28 المنعقدة هذا الشهر في دبي.
وبالمثل، هناك علاقات تجارية متنامية بين اليونان والمملكة العربية السعودية في مجموعة من القطاعات، بما في ذلك الطاقة، ولكنها تمتد أيضًا إلى لوازم البناء والخدمات الهندسية والبيئية وفي الأغذية والزراعة. في العام الماضي، وقعت اليونان اتفاقا مع المملكة العربية السعودية لتطوير كابل بيانات عالي السرعة بقيمة 800 مليون يورو، من الشرق إلى البحر المتوسط، والذي سيساعد في جعل اليونان بوابة الشرق الأوسط الرقمية إلى أوروبا.
وتتوافد الشركات الإسرائيلية بأعداد متزايدة إلى اليونان. وكانت الاستثمارات الأخيرة في قطاع الضيافة والتكنولوجيا وعلوم الحياة والدفاع.
وفي الوقت نفسه، يقوم عدد صغير ولكن متزايد من الصناديق الإسرائيلية والمواطنين الإسرائيليين بشراء العقارات بهدف الحصول على إقامة أو منزل ثان في اليونان. وقد أصبح ذلك واضحاً بشكل خاص في العام الماضي بين مجموعة مختارة من الإسرائيليين من الطبقة المتوسطة والعليا الذين أزعجتهم التحولات السياسية في إسرائيل. ومنذ بداية الحرب بين إسرائيل وغزة، يقال إن الأعداد زادت بشكل حاد. وقد تم إجراء حسابات مماثلة في السنوات الأخيرة من قبل الأثرياء الأتراك واللبنانيين الذين وجدوا بالمثل في اليونان ملاذاً من عدم اليقين في الداخل.
بالنسبة لليونان، يمثل هذا الدور الجديد كركيزة في شرق البحر الأبيض المتوسط تحولا جذريا عما كانت عليه قبل عقد من الزمن فقط عندما كانت البلاد في خضم أزمتها المالية. محليًا، عاد اقتصاد البلاد البالغ حجمه 240 مليار دولار إلى مستويات ما قبل الأزمة، وهو الآن أحد أسرع الاقتصادات نموًا في منطقة اليورو. وعلى الصعيد السياسي، تحول الرأي العام نحو وسطية أكثر واقعية. هناك دعم واسع النطاق لسياسات الإصلاح التي تنتهجها حكومة “الديمقراطية الجديدة” الحالية، والتي أعيد انتخابها لولاية ثانية في يونيو/حزيران.
إن مكانة اليونان الصاعدة تمثل خطاباً جديداً على الساحة الدولية. وتسعى الحكومة اليونانية حاليا للحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وإذا نجحت فإنها ستعزز مكانة اليونان الجديدة في المنطقة.
